تسع إيزيديات مغتصبات يخضن رحلة أسطورية

تناولت الكثير من الأعمال السردية العراقية ما يمرّ به العراق من مآسٍ وعنف ودمار وصراعات وحروب متلاحقة وأحداث درامية استلهمتها الروايات، لكنّ الكثير منها سقط في الانفعال والسطحية والأحكام المسبقة، ما يجعل من الروائي جزءا من الصراع ويفقد بذلك مرونته في فهم ما يحدث ونقله بجرأة وحياد دون تخلٍ عن دور المقاوم للعنف.
“حوريات الجبل” هي ثالث ثلاثية الروائي العراقي وارد بدر السالم. لم يجمع ثلاثيته بسلسلة روائية، كما لم يشر في رواياته الثلاث إلى كونها ثلاثية سوى إعلانه إلى الصحافة عن هذا الموضوع.
لكن كل ملامح الثلاثيات موجودة في نصوصه الروائية الثلاث، ليس لكونها ثلاثية جيلية، بل ثمة نمو في شخصيات النصوص وتحركها مثل شخصية الراعي رافيار في “بنات لالش” و”حوريات الجبل”، كما أن البيئة الحاضنة للنصوص الثلاثة كانت هي ذاتها “جبل سنجار/ المجتمع الإيزيدي” مما يؤشر إلى هذه النصوص وكاتبها يحق له أن يعلن ثلاثيته.
رحلة في الجبال
لا أعرف على وجه الدقة وقبل نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف هل هناك في الرواية العربية رواية ثلاثية؟ وهل كانت الثلاثيات كمنجز روائي مشروعا يكتمل في إنتاج الأجزاء. وهل كانت الرواية الثلاثية تقليدا سرديا جرّبته الرواية الأميركية والغربية قبل الرواية العربية؟
لقد دشّن بدر السالم وعلى مدى السنين الأخيرة من تجربته لخوض غمار الثلاثيات السردية كمشروع يكتمل في منجز سردي لثيمة واحدة، وهل نجح في ذلك؟
ربما توفر المادة الدرامية والفضاء المشبع بالمأساة هما اللذان جذبا الكاتب للخوض في كشف روايته لمأساة الإيزيديين كاشفا عن تداخلات كثيرة، بمعالجة سردية لعدة أحداث كانت مجهولة لدى الكثيرين. كما يبدو لي من دراسة فاحصة للرواية الثالثة “حوريات الجبل” ومحاولة ربط الأجزاء الثلاثة في هذا المشروع المتسلسل.
في كل الأجزاء الثلاثة يبقى الخيط الرابط هو البنت الإيزيدية مقابل قوى التطرف التي هاجمت القرى الآمنة التي لا تدين بالإسلام ولكنها عراقية صميمية، ترتبط بشيء من الوداعة والسلام مع محيطها منذ الآلاف من السنين.
أيضا ثمة علاقات حب وجواسيس وخيانات في تلك الأجزاء في فضاء الريبة والخوف والأسر والسبي في بيئة جبلية، تسنّى للكاتب من خلالها إطلاق مخيّلة جامحة أعطت لتلك البيئة عناصر نجاح لهذا المشروع المركب. فقد كان تتبع الأمكنة ومسميّاتها وأسماء الشخوص مطابقة أكثر من مطابقة الواقع لها، وكان سير الأحداث أكثر درامية، في محاولة لإقناع القارئ بحسّ المطابقة والتوثيقية المفترضة بين خيال الروائي والواقع الثقيل.
في “حوريات الجبل” الرواية الأخيرة في “الثلاثية” يتتبع الكاتب تسع بنات إيزيديات يقعن في شراك السبي الداعشي، بعد أن تم إجبارهن على ممارسة “جهاد النكاح” كممارسة شرعية. ومن ثم يقوم الخليفة بإطلاق البنات التسع وهن في شهورهن الأخيرة من الحمل، حيث يذكر الأمير القريشي أن مبادرة إطلاقهن ومحاولة إيصالهن إلى أماكن تواجد عوائلهن هي محاولة لزرع جيل جديد من الأبناء الدواعش في مناطقهن. ربما لم تحصل القناعة في تبرير القريشي لحجة إطلاق تسع بنات في الأيام الأخيرة قبل الولادة ونقلهن عبر الجبال بتسعة أيام مريرة، كانت بمثابة المحور أو الحدث الرئيس الذي شكلته ما يعرف بـ”الحدثية الروائية”.
لم تبدأ الرواية في رحلة البنات التسع مع الأمير القريشي وحمايته ودليله الراعي الإيزيدي رافيار الذي كان يعمل مع تنظيم الدولة في الظاهر، ولكن قلبه مع شعبه وديانته.
لكن الكاتب قلب الخط الدرامي المعتاد وألغى فكرة التسلسل المنطقي للحدث ونموه، فعمل على إفشاء اللعبة السردية منذ الصفحات الأولى، بأنه جعل البنات السبع في مستشفى للولادة في دهوك بعد نزولهن من الجبل بعد رحلة التسعة أيام.
كل واحدة تقدم نبذة عن حياتها بمساعدة الطبيبة باران التي تعاطفت معهن والطبيب الكردي كاكه فرياد، فتكشف المشاهد اللاحقة بانورامية الصراع ومصير الأجنة من أمهات إيزيديات وآباء من تنظيم الدولة، بين رفض الولادات أو قبول بعضهن بالأمر الواقع. إنه سرد متسلسل من الإفادات والأجواء الترقّبية لحدث مأساوي محير تنبثق منه المزيد من الأسئلة المقلقة التي تثير في ذات القارئ الحيرة عن مستقبل الولادات وهل هم مسلمون أم إيزيديون؟
أسطرة الواقع

ينتهي الجزء الأول من الرواية ناسفا ببراعة التجريب كل عناصر التشويق التقليدية ليضع القارئ في رحلة الموت عبر ممر الموت من مناطق التنظيم إلى مناطق يسيطر عليها الكرد، حتى يجد القارئ نفسه مرتحلا مع مجموعة السبايا والقريشي والدليل. كيف يستقبل الأهل بناتهن المغتصبات والمطلق سراحهن بتلك الصورة؟ وما هو مستقبل جيل من الولادات لهم من آباء كانوا مقاتلين في مشروع دولة إسلامية مفترضة؟
كل تلك الأسئلة يفجّرها الكاتب على لسان شخصيات الرواية وهي تحاور بعضها بعضا أو تحاور الطرف المتشدد. إذ تكشف الرواية عن إخلاص الكاتب لقضية ظلم مجتمعي كبير لينتصر لها من خلال الأدب الروائي سلاحه الذي يحارب به التطرف. وينتصر من خلاله لمأساة سنجار الحالية، التي تضاف إلى رصيده من مذابح حصلت تاريخيا لهذا الشعب المظلوم.
في الجزء الثاني تعود الأحداث إلى الانتظام وتأخذ التسلسل المنطقي بعد وصول الراعي إلى أرض مسيطر عليها من تنظيم الدولة، ويكلف بإيصال البنات إلى ذويهن عبر رحلة مسير مشيا على الأقدام، وعبر تحدّ محفوف بالمخاطر.
تفقد واحدة منهن حياتها عندما يحاصرها الطلق، فيأمر الأمير القريشي بتركها لتخوض مخاضها لوحدها وتترك لتنهشها الضباع، والثانية ترمي نفسها من فوق قمة الجبل لتقع في بحيرة الدموع. تلك البحيرة التي ينسج الكاتب ببراعة أسطورة متخيلة عن تسع حوريات يغتسلن بالدموع كل يوم على حافة هذه البحيرة الأسطورية بسبب فجيعة متخيلة حصلت لهن. ويجبر القريشي رافيار الراعي على قص حكاية هذه البحيرة ليتمتع بها.
في "حوريات الجبل" الرواية الأخيرة في "الثلاثية" يتتبع الكاتب تسع بنات إيزيديات يقعن في شراك السبي الداعشي
إن معظم السرديات الغربية والعراقية بالذات قد وقفت بالضد من دون اجتراح حقيقي لما يؤمن به الرجل المنتمي إلى هذا التنظيم المتطرف، بل أكاد أجزم هنا أن ولا أي سردية أخذت جانب الحياد في طرائق تفكير هؤلاء المتطرفين. وتلك قضية شائكة يكون فيها الانفعال اللاواعي هو السبيل الوحيد لرسم ملامح شخصية فيها من الرهاب والتعجرف والقسوة في السلوك والتصرف.
يشتغل السالم في مشروعه الروائي على ما اجترحته له من مصطلح يدعى “رومانسية الحدث الواقعي” في مجمل أدبه السردي. فيكون الخيط الرابط لمجمل رواياته علاقة حب، تكون هي المهيمنة التي يرسم مساراتها لتأخذ الحدث أو الأحداث الأخرى وتتحول إلى مهيمنة سردية أولى. إذ ما انفك الكاتب يخيط نسيجه الحكائي بشيء من رومانسية حالمة في أجواء مشبّعة بعلاقات بريئة تقف ضدها عناصر شر، ليرسم ملامح درامية المشهد، ويتحول الصراع الدرامي إلى عناصر تشويق وروي كبرى ترسم ملامح النجاح في أدبه الروائي.
يحرص الروائي على المحافظة على عنصر البراءة ويجده هو المسوغ لتلك الحياة العراقية القاسية وبالظروف الاستثنائية المعاصرة، فالكاتب جبل على معالجة الحياة العراقية والابتعاد عن مشاكسة التاريخ البعيد أو روايات الأساطير وما شابهها، فهو كاتب مادته المأساة والحروب والفواجع الآنية غالبا. لكنه أيضا يعمل على تغريب الوقائع في هذه الثلاثية، ويذكر القارئ قصة الغراب في “عذراء سنجار” وبحيرة الدموع ووادي الغزلان في رواية “الحوريات”، كل تلك التغريبات تدخل مختبره السردي وبمعالجة درامية لتغريب الوقائع المعاصرة واللحظة الآنية بصياغة فنية لأسطرة الفجيعة، كي تكون ملامسة لشغاف الحدث المرير. إن أسطرة السالم لا يفصلها عن الواقع سوى جدار شفاف ورقيق يختلط فيه الحلم والواقع معا لينتجا لنا أدبا يفوق فيه تصنيف الثلاثيات.