تريستان غارسيا: لا شيء أكثر هشاشة من قوة الحياة

خيانتان تحدان من عمل الإنسان: تفكيره للدفاع عن حياته والعيش وفق فكره الضيق.
الجمعة 2023/07/21
بين الأفكار والحياة يقف الإنسان (لوحة للفنان بسيم الريس)

الحياة والأفكار عالمان متداخلان ومتصارعان لا يعيشان في سلام، وربما يعود ذلك إلى اختلاف طبيعة كل منهما. الاختلاف يمكن رصده من خلال الكثير من الأشخاص الذين لن تجهد كثيرا لتلاحظ مدى التناقض بين ما يفكرون فيه وأفكارهم ومبادئهم وحيواتهم، هذه العلاقة الإشكالية يعيد تفكيكها بدقة المفكر الفرنسي تريستان غارسيا.

هل هذه حياة جميلة وطيبة وحكيمة أم مجنونة؟ هل هي سعيدة؟ هل هي حياة مجرم أم حياة قديس أم ظلامي قذر أم كائن وضيع أم إنسان عادي؟ لا شيء يهم من كل ذلك. إذ يبدو أن المبدأ الوحيد المسلم به هو الآتي: مهما كانت دوافع وأعمال هذا الإنسان أو ذاك، ينبغي أن نتساءل إذا ما قد عاش بعمق في النهاية أم لا، قد يبدو تعبيرا مبتذلا لكنه ينص بدقة على ما هو متوقع منا. إن الخطيئة الوحيدة في كل شيء هي أن تتناقص الكثافة. من المحتمل أننا كنا متواضعي التوهج وكان من الأفضل لو كنا متواضعين لكن بتوهج.

انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب المفكر الفرنسي تريستان غارسيا "الحياة المكثفة.. هوس الإنسان الحديث" ليؤكد أنه "لا وجود لحل نهائي يمكن الكائن الحي من الحفاظ على كثافة حياته"، موضحا أن "الفاتر – قاصدا الإنسان الفاتر – محايد أيضًا، ومرفوض بسبب عدم التزامه بشيء. هو صنو للجبن، وهو الإنسان المتمركز وسط المعبر، المدّعي للتقارب مع الجميع في انتظار حسم يأتي من التاريخ. إنه الخائن المحتمل لكل المعسكرات".

يقول غارسيا في كتابه الذي ترجمه الكاتب التونسي صلاح بن عياد وصدر عن دار أدب السعودية “لم تقل الروايات والأفلام والأغاني على مدى القرنين الأخيرين غير الآتي ذكره: 'عش! مهما كانت حياتك’، ‘أحبَّ! مهما كان الذي تحبّه’، لكن وخصوصًا ‘عشْ وأحبَّ بقدر ما تستطيع’، لأنّه لا شيء مهمّ سيُحتسب لك في النّهاية عدا تلك الكثافة الحياتية".

ويرى أنه ليس أمام الكائن المفكر من خيار آخر سوى أن يقاوم بلا انقطاع من أجل الحفاظ على كثافة حياته. فأن نتمسك بكهرباء أعصابنا وعضلاتنا وأن ندعمها أكثر وأن نتركها تخترقنا وتصعقنا، كل ذلك لا يؤدي فقط إلى أن نشعر ولكن أيضا يؤدي إلى معرفة أن لدينا إحساس الكائن الحساس، أي نتعلم مقابلتها بقيمة أخرى. فالحياة تقاوم الفكر بمثله، وعليها أن تقاومه لأنها لا تسمح باختزالها إلى مجرد كلمات وأفكار ومفاهيم، ولأنها لا تسمح بأن تقيم وفق مبادئ التساوي والبساطة والإطلاق والأبدية التي تبقى من شأن فكرنا وحده.

الحياة والتفكير

◙ الفكر يقاوم الحياة لأنه غير قادر على الخوض في معترك الكثافات الحياتية والمعلومة العصبية
◙ الفكر يقاوم الحياة لأنه غير قادر على الخوض في معترك الكثافات الحياتية والمعلومة العصبية 

وفي مقابل ذلك يقاوم الفكر الحياة لأنه غير قادر على الخوض في معترك الكثافات الحياتية والمعلومة العصبية وضغط الأوردة والتغيرات الهرمونية دون أن يصنفها ويحددها كميا ودون أن يفرغها من كل شعور حميم في نهاية المطاف. إننا كائنات حية ومفكرة في آن، لذلك نحمل في داخلنا علاقة تقوم على توازن مستمر للقوى بين تنوعات تنتجها حياتنا وهويات يفرضها فكرنا.

لا وجود لقاض مكلف بإحلال السلام بين القوتين وقادر على الفصل بحيادية بين متطلبات أشكال حياتنا وأشكال أفكارنا: الأمر بأيدينا نحن أنفسنا بما أننا نعيش ونفكر، سيكون علينا الحكم على قيم تحترم حياتنا وفكرنا معا. وهذا التحكيم ليس إلا نشاطا إيتيقيا خاصا بكل نظرة إنسانية ذاتية أو حتى بكل نظرة حيوانية وكل من يحاول جاهدا الحفاظ على مشاعره دون أن يكف عن تخزين خبراته وإخضاع أحاسيسه لأطر فكرية. لا يمكننا أن نلتزم بخلاصة ما لكيفية العيش ولا لكيفية التفكير إلا إذا أردنا تعنيف الحياة والتفكير معا.

ويقول غارسيا "ثمة خيانتان ممكنتان تحدان من مجال عمل الإنسان: أما الأولى فتتمثل في تفكيره من أجل الدفاع عن حياته، وأما الثانية ففي العيش وفق فكره الضيق. تمثل الثانية حكمة الكائن القوي الذي ينصب نفسه في مرتبة أعلى من الأخلاق والمنطق وتمثل الأولى مبدأ الحكيم الذي يخضع للحقيقة وحدها. وإن هذين الوضعيتين قادرتان في العموم على أن تكونا تعبيرا عن ذكاء فائق أو حكمة عظيمة، في حين أنهما تبديان العكس تماما: يكفي سوء فهم بسيط للرابط الذي يجمع بين مبادئ غير متجانسة يتسم بها كل من يعيش وكل من يفكر. فالإنسان القوي والإنسان الحر الذي لا يفكر إلا في توضيح حياته والدفاع عنها، وهو الإنسان القادر على التلاعب بالكلمات والأفكار ليثبت لنفسه بشكل مخاتل أنه على حق: سعيا وراء مصلحته، يقوم بالتحكم بكل ما ينفلت من طريقته في الحياة، فيبحث في الحقائق عن نظير لحبه وبغضه، ويعيش حياته مجابها للأفكار الكبرى بما يحصل في الواقع بين القوى الحميمة لدوافعه ونفوره ورغباته المستترة التي لا يمكن تبريرها بالعقل ولا تتمسك إلا ببنيته وسيرته. إنه الذي يتمنى من العالم المجرد الذي يغص بالمفاهيم أن يمكنه من التوفيق بين أذواقه وطرق عيشها. وإنه يستخدم الفكر الكوني كما يستخدم أي عامل مساعد واقع في هامش حياته المتفردة".

◙ من يعتقد أنه متناغم لأنه يعيش وفق مبادئ يستمدها من فكره يشبه مروّض حيوانات يقنعها لتتصرف كأحجار

 ويلفت المؤلف إلى أنه بالنسبة إلى من يعيش وفق تعاليم فكره، ذاك الذي يظهر مظهر الحكيم فإنه يقترف خطأ في ترتيب أولوياته، إذ يعتقد أنه قادر على أن يفرض بقوة إرادته ما يعتبره صالحا كفكرة كونية لتفرد جسده. وهو من يستمد انتصاراته من وراء اختزاله المتدرج لكثافات وجوده إلى كينونات مجردة. فكل من يعتقد أنه متناغم لأنه يعيش وفق بعض المبادئ التي يستمدها من فكره يشبه مروضا غريب الأطوار يفخر بكونه تمكن من تعليم قطيع من الحيوانات كيف تتصرف مثل الأحجار، وكل من يستخدم فكره لتحويل خصوصيات شكل حياته إلى نماذج كونية لا ينبغي أن يبدو لنا أكثر مصداقية من إنسان عمد إلى نحت بعض الأحجار ثم راح يعاملها كما يعامل قطيعا من الحيوانات الحية.

ويؤكد غارسيا أنه من البديهي أن تكون الحياة كما الفكر معطيين متمايزين من وجهة نظر فكرية محضة كما لو أنهما مفهومان غريبان عن بعضهما البعض. أما من وجهة نظر الحياة فإن الفكر ليس أكثر من كثافة استثنائية من كثافات الكائن الحي، وأما الجزء الذي يفكر فليس منفصلا تمام الانفصال عن جزئنا الذي يعيش والذي يكابد. ما دمت أفكر في كل ذلك سيكون من المستحيل عليّ ألا أفرق بين ما يهم جهازي العصبي بدءا بما يحيط أعصابي وصولا إلى مركز الأوامر في دماغي، فهو جهاز يستقبل الرسائل العصبية ويحللها ثم يدمجها وبين العالم الذي يجعله يفكر متاحا لي، وهو عالم من الكينونات البسيطة القابلة للتحديد وإعادة التحديد والتي هي موجودة في الواقع.

ويضيف “يمكنني أن أحاول التعامل مع ما أعتقد أنه يمثل كثافات متنوعة وهكذا أتمكن من محاكاة الحياة في مكون من مكونات المفهوم كما يمكن أن أتظاهر بالطيران وأنا أمشي. إنها التحولات نفسها التي حاولت ميتافيزيقيات الكثافة تحقيقها. لكن الفكر وإن اتخذ شكل الحياة فسيلوث قيم الحياة والكثافات التي أعتقد بأنها ستخمد سريعا أو تختزل إلى هويات: فمن شأن أثر الروتين أن يخفض كثافة الأفكار إلى الصفر. وهكذا نفهم أن الفكر غير قادر على فعل شيء آخر عدا أن يعرف ويميز ما يعني أن يجزّئ الكثافات المتنوعة إلى كينونات متمايزة لكن متساوية: فبالنسبة إلى الفكر، الحياة والفكر يظلان كما هما دائما مملكتين متنازعتين”.

هشاشة الحياة

ينبغي التوصل إلى تصور ترابط مضاعف بين المستمر والمتقطع حتى نحصل على مفهوم مضبوط للإيتيقا
◙ ينبغي التوصل إلى تصور ترابط مضاعف بين المستمر والمتقطع حتى نحصل على مفهوم مضبوط للإيتيقا

يرى المفكر الفرنسي أنه ينبغي التوصل إلى تصور ترابط مضاعف بين المستمر والمتقطع حتى نحصل على مفهوم مضبوط للإيتيقا. فأن نعيش هو أن نجرب الاستمرارية في الكثافات المتنوعة، وأن نفكر هو أن نقطّع العالم إلى كينونات متمايزة. أن نفكر في الاختلاف بين الحياة والفكر هو أن نميز بين الحياة والفكر. لكن، أن نعيش بالاستمرارية والتقلبات بين الحياة والفكر هو خلافا لذلك أن نشعر بالاستمرارية والتقلبات بين الحياة والفكرة.

أما الإيتيقا فتتمثل في تنظيم الحياة الفكرية والفكر المعاش بشكل يمنع كل هيمنة قد تبدر من طرف على آخر. ينبغي توضيب مقاومة عنيدة للفكر وفقا لعفوية الحياة التي تفتقد طبيعتها ما إن تنغمس في الكلمات وينبغي أيضا منع الفكر المجرد من السيطرة على الحياة، وذلك بأن نذكّرها في كل مرة بما يجب أن تشعر به وأن نعدها بأنها ستبح مثله عندما تختار الحكمة أو الخلاص.

ويشير غارسيا إلى أنه لا شيء أكثر هشاشة من قوة الحياة. لا بد أن نتماسك ونحن واقفون على نتوءات الأفكار والأحاسيس من أجل أن نشعر بالحياة لأطول وقت ممكن، لا بد أن نصمد أمام دوار إثبات الحياة دون الوقوع في هاوية انعدامها. فأن نبالغ في إثباتها يعني لا محالة نفيها. لكن نفيها لا يؤدي إلى إثباتها: إنه يعني فقط استخداما منحرفا لقوة الحياة ضد نفسها. فالكائن الذي يحيا ويعيش يخسر دائما في حال لم يكن شديد الحساسية تجاه التيار القوي الذي يشعر باختراقه له. ينتهي فكره دائما بأن يحيد كل ما هو قوي في كيانه. ها هنا يقع حظ حياة حساسة: وهو الذي في حساسيته غير قابل للاختزال إلى أي شيء آخر. وها هنا يربض الكنز الحميم لكل كائن يشعر بشيء ما، بجوهرة أحاسيسه، بالجزء الذي لا ينتمي إلا إليه: وتمثل في الشعور بأنه ليس المراقب الكوني ذلك الذي لا يملك حياة الحيّ.

ويختم "ماذا يمكن للحياة أن تفعل أفضل من أن تعمل على مساندة ذلك الشعور داخلها والذي يجعلها أكثر حياة؟ هو شعور لا يمكن أن نعد به أحدا، لكن على كل واحد منا أن يكون قادرا على أن يتمنى المحافظة عليه على مر الزمن. لا شيء أكثر كثافة بالنسبة إلى الكائن الحساس والفطن أكثر من أن يكون قادرا على التفكير دون أن يلغي حظه السعيد بأنه بعد على قيد الحياة".

صورة

 

13