"تركواز" فيلم سينمائي تتماهى فيه الأحلام مع الحقيقة

قصص وأحداث تتباين بين ما يمكن وما لا يمكن من وجهة نظر سينمائية واقعية
الخميس 2022/07/07
ممثلون يجسدون الواقع والخيال

لا تقدم الحياة للشخص كل ما يتمناه فتغدو أحلامه جزءا من حياته، يعيشها بأدق تفاصيل يومياته من خلال أفعال تكشف أحلامه ورغباته، لكنها تصدمه بأنها ليست إلا أحلام يقظة، لا تلبث أن تنتهي ليعود مرغما إلى واقعه القاسي. ذلك الواقع هو ما يجسده فيلم “تركواز” في مغامرة سينمائية تحمل ملامح ألم تعيشه شخصيات مأزومة في رحلة بحثها عن حل ولو في عالم الأحلام.

يعتمد فيلم “تركواز” تقنية سردية نادرة في تقديمه لحكايته، سبق وأن وجدت في العديد من المحاولات المسرحية العالمية، تعتمد على وجود مسرحية داخل المسرحية. وهي الطريقة التي عمل عليها شكسبير وموليير ومارون النقاش وسعدالله ونوس وغيرهم. على أن المحاولة الأهم التي ظهر فيها هذا الأسلوب كانت مع الكاتب الإيطالي لويجي بيراندلو في مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، حيث تدور حكايتها عن فرقة مسرحية تكاد تبدأ تمارينها فتدخل فجأة أسرة مكونة من أب وأم وإخوة جمعتهم روابط عائلية مشتتة ومحرمة كادت تحمل مزيدا من التأزم.

في هذه المسرحية اخترق الكاتب ما يسمى الجدار الرابع في العرض المسرحي وصارت العلاقة متبادلة بين الجمهور والممثلين.

فيلم “تركواز” يحاول من خلال لغة السينما أن يقدم شيئا موازيا، بحيث يكسر العلاقة الطبيعية في آلية عمل السينما من حيث وجود الممثلين أمام الجمهور، فالممثلون في الفيلم يقدمون شخوصا محددة بمكوناتهم وبنفس الوقت يقدمون أشياء من حقيقتهم وأحلامهم، فالممثل يحمل بعضا من شخصيته الحقيقية وبعضا آخر من الشخصية التي
يقدمها.

“تركواز” فيلم روائي قصير كتبه وأخرجه علي إبراهيم في أول تعاون فني مع المؤسسة العامة للسينما الجهة المنتجة، وهو يقدم حكاية تجمع بين ثلاثة شخوص، امرأة ورجلان، تحرك الأحداث بينهم تفاصيل مهنة السينما وما تقدمه من حلول لإحدى الشخصيات، فالمشاهد التمثيلية التي تؤديها تحمل بعدا نفسيا لأمنيات ورغبات دفينة عندها. فتكون حوارات ورغبات الشخصيات جزءا من الرغبات الحقيقية التي يعيشها أصحابها.

ويقوم الفيلم على وضوح تفاصيل المكان فيه، لكن الزمان يتماهى فيه بين الواقع والمشتهى، والأحداث فيه تنوس بين ما يمكن وما لا يمكن. وقدم شخصيات الفيلم الرئيسية روبين عيسى وعامر علي وحمادة سليم.

شغف السينما

أمنيات ورغبات دفينة تمزج الواقع بالخيال
أمنيات ورغبات دفينة تمزج الواقع بالخيال

تحضر أشعار محمود درويش في فيلم “تركواز” لتشكل لأحدهم حالة وجدانية، ولتؤكد على ضرورة أن يبذل في سبيل ذلك جهدا خارقا، فتحضر جمل شعرية قالها محمود درويش في تفاصيل أحلامه، ومنها:

بكوب الشراب المرصع باللازورد انتظرها
على بركة الماء.. حول السماء وعطر الكولونيا انتظرها
ولا تتعجل فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها
وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها
إلى أن يقول لك الليل لم يبق غيركما في الوجود
فخذها إلى موتك المشتهى وانتظرها

محمود درويش ظهر مرارا في السينما بشكل واضح أو بشكل موارب، كما حضر في تفاصيل حكايات بعض الأفلام كما في “تركواز”. فقد قدمته السينما العالمية في فيلم للإيطالي سافيريو كوستانسو في فيلم خصوصي وكذلك في فيلم هوية الروح للنرويجي توماس هوغ كما ظهر في فيلم “كما قال الشاعر” للفلسطيني نصري حجاج و”فيلم 9 آب” للمخرج اللبناني طلال خوري وغيرها من التجارب السينمائية.

فيلم "تركواز" يحاول من خلال لغة السينما أن يقدم شيئا موازيا بحيث يكسر العلاقة الطبيعية في آلية عمل السينما

وتبدو الفنانة روبين عيسى معنية بالفن السينمائي بكل طاقة الشغف، فرغم كونها خريجة الفن المسرحي وسبق وأن قدمت فيه أعمالا مميزة كما قدمت العديد من الأدوار التلفزيونية خلال مسيرتها الفنية، لكن شغفها بالسينما يجعلها في حال تماس دائم معها، فقد نفذت خلال الفترة السابقة العديد من الأفلام، فشاركت مع باسل الخطيب ثم أيهم عرسان في ثلاثية سينمائية كان آخرها فيلم “بوح” الذي انتهت من تصويره قبل فترة وجيزة. وأنهت منذ أيام تصوير فيلمها الذي حمل اسم “فيلم طويل جدا” وهو أول محاولاتها الإخراجية، وقدمت فيه بلغة سينمائية رمزية خالية من الحوار حكاية ثلاثة شخوص يجمعهم مصير مأزوم.

في فيلم “تركواز” تقدم روبين عيسى شخصية فنانة تذهب بها الحياة نحو مآزق نفسية عميقة، وتعيش منعطفات حياتية واجتماعية عنيفة، تتشابك في علاقتها مع محيطها مجموعة من العواطف التي تعبر عنها حينا وتخفيها حينا آخر، في انتظار ما يمكن أن يحدث.

ويدور الفيلم حول شخصية “ماريا” ويبيّن تفاصيل قد لا تكون منطقية لكنها حقيقية ومعاشة في كل زوايا الحياة.

وفي تماه مع مضمون الفيلم، حيث الأمكنة والأزمنة الغائمة، التي لا تضع حدودا واضحة بينها، يكمن لون التركواز الذي هو مزيج بين الأزرق والأخضر. فاللون كما أي شيء في الحياة يحمل دلالاته. فاللون الأزرق يحمل دلالاته والأخضر كذلك، واجتماعهما يخلق دلالات جديدة تشي بأن عالما آخر مختلفا سيكون موجودا بشخوصه وأحداثه وأزمانه وربما بإحساسه بالحب والتعامل معه.

ويركز كاتب ومخرج الفيلم علي ابراهيم على أن لون التركواز كان ثيمة أساسية في الفيلم، كونه يحمل معادلا فكريا لحال شخوص الفيلم الذين لا يعرفون مكان وجودهم في الحياة الحقيقية، وكيف يمكنهم العبور إلى المستقبل في ضوء حالة الفوضى النفسية العميقة التي يحيونها وتداخل الحقيقي بالمشتهى في تفاصيل حيواتهم.

بين الهندسة والإخراج

تفاصيل حقيقية ومعاشة في كل زوايا الحياة
تفاصيل حقيقية ومعاشة في كل زوايا الحياة

كان شغف الشاب علي إبراهيم أن يكون مخرجا سينمائيا، لكن عدم وجود دراسة تخصصية في سوريا لم يسمح له بفعل ذلك، فدرس هندسة الاتصالات فيها، لكن طموحه الفني لم يقف عند متابعة السينما متفرجا، فعمل بالتوازي مع دراسته للهندسة على تطوير معرفته السينمائية بالمعلومات والخبرة اللازمة، فشارك في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية في سوريا، فكان ضمن فريق الإخراج لفيلم “فانية وتتبدد” مع نجدة أنزور وعمل مع باسل الخطيب وقدم مشاركات في التلفزيون وساهم بأعمال عديدة في المؤسسة العامة للسينما، وهو يقدم بفيلمه “تركواز” أولى خطواته في الإخراج السينمائي.

أيام قليلة مرت على تصوير “فيلم طويل جدا” أول محاولات روبين عيسى في الإخراج السينمائي، عمل فيه علي إبراهيم مخرجا منفذا، وقدّم فيه تعاونا كاملا مع المخرجة حمل شيئا جديدا من حيث اعتماده على مشهدية الصورة والابتعاد عن الحوار تماما. وفي فيلم “تركواز” يكون علي ابراهيم مخرجا وتلعب روبين عيسى دور البطولة فيه، في تبادل إبداعي في المواقع المهنية يحمل كثيرا من الثقة الفنية بينهما.

كما تبدو مشاركة الممثل الشاب حمادة سليم متميزة في الفيلم، فرغم أنه لا يشكل مساحة زمنية كبيرة لكنه يحمل تأثيرا خاصا، ويشكل ثقلا دراميا واضحا. فعنده تتلاقى خيوط الحقيقي بالخيال والواقعي بالمشتهى. وتقدم الشخصية التي يجسدها في الفيلم منعطفات درامية تقطع سيرورة الأحداث الهادئة أو العادية التي تعيشها بقية الشخصيات، لكنها بظهورها القليل، ذات تأثير كبير على مسار الأحداث وترسم مستقبلها الصامت.

حمادة سليم الذي قدم الشخصية يبيّن بأنه رغم قصر الدور زمنيا فإنه توجه لتقديمه لأنه يحمل روحا وطاقة كامنة كبيرة، ويقول عنه “استفزني الدور وأردت من خلاله إثبات أن الدور لا يقاس بمساحته الزمنية”.

ومن الملفت أن ذات الممثل قدّم قبل أيام فيلما روائيا طويلا من إنتاج المؤسسة العامة للسينما حمل عنوان “الظهر إلى الجدار” وهو من إخراج أوس محمد. ولعب فيه شخصية مريض في مشفى للأمراض النفسية يقتل زميلا له في المشفى بتمثال حجري إشباعا لموجة غيرة عصفت به. هذه الشخصية لم يكن وجودها طويلا زمنيا في مساحة الفيلم، لكنه وجود حاسم إذ أنهى وجود الشخصية الرئيسة في الفيلم وهي المريض النفسي التائه (عبدالمنعم عمايري). لتكون مشاركته في فيلم “تركواز” تأكيدا منه على مغامرة سبق وقدمها منذ فترة قريبة.

15