تخطي الممنوعات الثلاثة

مثلث السياسة والدين والجنس مشروعا لا يزال قائما وسيبقى إلى أجيال بعيدة من دون أن تعترضه قوافل الفتاوى ومرجعيات المتصيدين بالماء العكر.
الخميس 2019/01/31
الجمال بتحرير العقل (لوحة هيلدا حيارى)

منذ زمن قديم ينشغل الكاتب العربي عموما بثلاث ثيمات أساسية يوليها اهتماما استثنائيا، هي: الجنس والدين والسياسة، لاسيما في السرديات الروائية لما تحمله من مساحة واسعة في الحياة اليومية والاجتماعية وفضاء كتابة أكثر اتساعا وتخيلا.

وهذه الثلاث هي من الممنوعات القديمة التي درجنا على حفظها، وربما عدم الانسياق إلى تناولها إلاّ بحذر ووسطية، لكن الظرف السيا-اجتماعي تغير كثيرا وتغيرت معه آليات الكتابة وما عادت هذه الثلاثية تخيف كثيرا، حتى في المجتمعات الأكثر صرامة سياسية وتطرفا دينيا، إذ انفتحت أجنحة الحياة كثيرا وباتت الفرص في التأمل والكتابة أكثر انسجاما مع هذا التحليق الواسع.

بتقديرنا أنّ الأمر له علاقة بأحداث كبيرة جرت على سطح الكرة الأرضية في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة نبشت فيه الدفاتر القديمة وقلّبت شيئا مهما من سنداته ومخطوطاته الحجرية الصفراء وأرجعته إلى أصوله ومثاباته الأولى؛ فأعادت الوعي الفني والجمالي والواقعي أيضا إلى رشده للتبصّر الضروري في تلك الممنوعات وغيرها من التي قيّدت حركة الكتابة كثيرا.

ومن تلك الأحداث الحروب والانقلابات السياسية وشيوع الظاهرة الدينية المتطرفة التي أوجدتها ثورات الربيع العربي سيئة الصيت، وثورة الإلكترونيات العامة التي فتحت أبواب الغرب والشرق عندما أزيلت حُجب كثيرة عن البصائر والأبصار، وتحوّل العالم إلى قرية في عولمة التكنولوجيا والاتصالات وما ترتب على ذلك من كسر أقفال كثيرة في المجتمعات، لاسيما العربية منها، عندما أشاع الوعي السياسي ومضادات الديني المتطرف في لقطة تكاد تكون موحدة بعد الزيف المريع الذي لمسه المواطن العربي في تلك الثورات المشبوهة.

وهو أمر سمح لنا طوعا أو قسرا بأن نفتش في عمق الجمال والفن ولقاء الآخر من دون شرطة حدود ومطارات ولحى مستعملة وثياب قصيرة وفتاوى ملوّنة، مما قلّص الكثير من الفوارق الجغرافية والنفسية، وجعل الحالة التاريخية ذات حجم أصغر مما كنا نتصوره ونتقيد به، كما فسح المجال بأن نرى الحياة أكثر انفتاحا بممنوعاتها التاريخية الثلاثة، لرؤية الذات ورؤية الآخر من خلالها أو عبر غيرها.

ومن المؤكد أن ما يسمى بثورات الربيع العربي المغشوشة فتحت الحياة على مصاريعها ومن أبوابها كلها لنرى حجم الخديعة بمستوياتها المتعددة سياسيا ودينيا متطرفا قاسيا وعلاقات اجتماعية متنوعة، وأيضا في لقطة جماعية عربية لم يستطيعوا تزويرها، فالوعي الثقافي كان حاسما في الانقضاض على شهادات التطرف والانغلاق والعشوائية.

ففي السياسة ثبتت كذبة الديمقراطية المزعومة التي أطاحت بالرموز الدكتاتورية العربية، والشاهد هو الحروب والدمار الذي طال كل البنى التحتية والفوقية والنفسية، وفعلت ما لم تفعله سنوات الحروب الباردة والدافئة والساخنة؛ والدين المتطرف أنتج لنا القاعدة وداعش وسواهما من الحركات الإسلاموية سيئة الذكر بطائفيتها التي شوّهت الدين وأربكت الناس بفتاوى جاهلية لا رصيد لها في واقع الأمر.

وبالتالي وجد الكاتب العربي أنه أمام خديعة تاريخية لا مناص من التحرر منها وإطلاق الكتابة إلى أوسع مدى من دون مرجعيات مسبقة تؤسس للمنع والتقييد بصعيديها الديني والسياسي، لذا لزم الأمر تخطي الممنوعات القّارة كلها لأنها بُنيت على أسس غير واقعية وغير صحيحة، بعدما مرّت بخدائعها على أجيال أدبية وثقافية كثيرة وفوّتت عليها فرص الكتابة واستكشاف جمالها وفنها الذي يبقى على مدار القراءة الجيليّة الطويلة.

مثلث السياسة والدين والجنس مشروعا لا يزال قائما وسيبقى إلى أجيال بعيدة من دون أن تعترضه قوافل الفتاوى ومرجعيات المتصيدين بالماء العكر، فالجمال هو أن نحرر العقل ومن ثم الأقلام والأصابع من تبعيات تاريخية ليس فيها أفق أزرق يماشي الحياة الصاعدة إلى العلم والتطور الحضاري الكبير من دون أن نخسر هوياتنا المحلية والوطنية، بل نعززها بالجمال.. جمال الإبداع الخالد الذي لا ينتهي وهو يحرر ذلك المثلث من إشكالياته وتعقيداته المفهومة.

14