تحرك فأنت لست شجرة!

“إذا لم يعجبك المكان الذي تعيش فيه تحرك فأنت لست شجرة!”، هكذا خاطب جيم رون، أحد رواد التنمية البشرية في عصرنا “مريديه”، ليحفزهم على الحركة من أجل التغيير، وسرعان ما اتخذت المقولة قالبا أكثر وضوحا لتصبح “سافر فأنت لست شجرة”، كشعار يرفعه كل من يحبون السفر أو من يتهكمون على أنفسهم وعجزهم عن السفر الذي حوّلهم إلى أشجار جذورها ضاربة في أعماق الأرض.
والأميركي جيم رون (1930) هو واحد من أشهر خبراء التنمية البشرية الذي قدّم منذ ثمانينات القرن الماضي العديد من الكتب المهمة التي تهدفُ إلى توجيه الإنسان ودفعهِ نحو التقدّم والنجاح في حياتهِ الخاصة والعمليّة.
قد تبدو نصيحة رون التي اتخذت شكلا أوسع بمرور الوقت صعبة على الكثيرين، فالسفر اليوم أصبح حلما يراود أغلب الشباب العربي، بعضه يرغب في سفر سريع خارج أرض الوطن يكتشف من خلاله شعوبا مختلفة عنه، يرى كيف يحيى الآخرون، كيف هي سلوكياتهم وثقافاتهم وعاداتهم الغذائية، بينما يرغب فيه آخرون ليكون سفرا طويلا بلا عودة أو ربما بعودة بعد سنوات بعد أن تشتعل فيهم نار الحنين إلى الوطن والأهل والأحباب.
لكن رون هنا لم يذكر كلمة سفر، إنما أشار إليها بفعل “الحركة”، فالسفر بركوب طائرة تحملك من بلد إلى آخر هو رحلة ممتعة بلا شك، تعرّفك على نفسك أكثر مما تعرّفك على الآخرين، ذلك إن كنت مهتما بمعرفة نفسك وتطويرها بناء على ما تلاحظه في الآخرين وكيف تتفاعل معهم، لكن خبير التنمية البشرية هنا يخاطبنا لنتحرك، “في الحركة بركة” كما يقول المثل الشعبي، نتحرك لنغير الأمكنة التي لا نحبها.
الحركة من مكان إلى آخر، سلوك كان سهلا عند أجدادنا، حين لم تكن الحياة قد بلغت بعد مستوى التطور الذي نعيشه، تراهم ينتقلون من بلدة إلى أخرى للبحث عن فرص للبقاء، إنما نحن اليوم نتمسك بأمكنتنا، أحيانا نحن نمقتها، ننفر منها، تسبب لنا توترا مزمنا، تخنقنا، لكننا لا نهجرها لأننا اعتدنا عليها وعلى من يشاركوننا الحياة فيها، فنلتصق بها أكثر، وإن غادرناها عدنا إليها مسرعين، وهذه هي حال أغلب الرافضين لتغيير أماكنهم المعتادة وأوطانهم.
العادة والتعود غلبا رغبة الإنسان في التحرر والتطور والاكتشاف، قتلا فيه فضوله، حتى أنه رضي بأن يكون “شجرة” ويتخلى عن الحركة طواعية.
كلما سافرت وعدت، وكلما تأملت الأمكنة التي لا أحب لكنها يبدو أنها تحبني فتسجنني داخلها، أدركت أن عليّ المزيد من الحركة، لا يهم إن لم أغيرها كليا ولكن أيّ تغيير جزئي قد يفي بالغرض، ألم يقل رون “ابدأ حيث أنت ومع أيّ شيء لديك.” دع عنا رون، ألم يقل الله ذلك في كتابه من 14 قرنا “..أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا..”.
اعذروني إن حذفت أول الآية وآخرها فلا أرجو لأحد أن يكون من المستضعفين أو يخلد في جهنم عقابا على رضائه باستضعافه.
إن دققنا النظر في قول الله وقول رون أيضا، سنجد أنه يتخذ جانبا أعمق، فالمرء قد لا يحتاج هجرة من أرض إلى أخرى أو حركة من بلد نحو الآخر، يكفي أن يهاجر بروحه نحو عوالم أرحب، أن يكون منفتحا على كل اختلاف، أن يكون مستعدا للتغيير لا متشبثا بالماضي يكرره ويجتره ويعيد “حكايات” الأجداد.
إن لم يعجبك المكان والشخوص، فاسع للتحرر منه، والتحرر قد يكون درجات أولها التحرر الفكري والروحي ثم الجسدي، وكما يقول رون “إن كنت فعلا تريد فعل شيء ما، فإنك ستجد وسيلة، وإذا كنت لا تريد فستجد عذرا”.
من يريد يستطع، تلك هي المعادلة باختصار، فتحرك.