تحديات أمام المشيشي.. تونس في مواجهة أزمتها

هناك اليوم حالة من الترهل التي تريد الأطراف العقائدية ذات المشاريع المستوردة البناء عليها لإسقاط النموذج الوطني للدولة المعتمد منذ أكثر من 60 عاما واستبداله بما ترى فيه تكريسا لمشروعها.
الأربعاء 2020/08/12
وقف النزيف وليس تغيير الواقع

يجد رئيس الحكومة التونسية المكلف، هشام المشيشي، نفسه أمام تحدّ كبير، ليس في تكوين فريقه الوزاري فحسب، وإنما في مواجهة الأزمة التي تمر بها البلاد على مختلف الأصعدة، والتي ستتفاقم مع مرور الأيام والأسابيع، خاصة مع بداية تفاقم إفرازات أزمة كورونا على الصعيدين الداخلي والخارجي. هو يقول إن هدفه وقف النزيف وليس تغيير الواقع، وخبراء الاقتصاد يتحدثون عن نذر إفلاس، والسياسيون لا يستبعدون ذلك، والمحللون الدوليون يشيرون إلى أن تونس ستعرف أزمة مالية واقتصادية لم يسبق لها أن شهدتها منذ استقلالها عام 1956.

 هذا الأمر سيؤثر على الوضع الاجتماعي بشكل غير مسبوق، المهتمون بالشأن التونسي يدركون جيدا حساسية المسألة الاجتماعية التي كان لتداعياتها دور كبير في عزل بورقيبة في نوفمبر 1987، والإطاحة بنظام بن علي عام 2011، ويمكن أن تؤدي إلى انتفاضة جديدة في أي وقت، خصوصا وأن بعض القوى السياسية تدفع نحو صدام مباشر مع الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية العريقة ذات القدرة العالية على تأطير الاحتجاجات وتوجيه الرأي العام، والتي بدأت قياداتها في تصعيد خطابها منذ فترة ردا على محاولات استهدافها والتشكيك في دورها.

لا شك أن المشيشي، وهو ابن الإدارة الحكومية التونسية، مطلع جيدا على نتائج ما تم خلال السنوات الماضية من تخريب ممنهج لمؤسسات الدولة من الداخل. هناك اليوم حالة من الترهل العام التي تريد الأطراف العقائدية ذات المشاريع المستوردة البناء عليها، لإسقاط النموذج الوطني للدولة، المعتمد منذ أكثر من 60 عاما، واستبداله بما ترى فيه تكريسا لمشروعها.

علينا أن نقرأ جيدا مؤشرات الحرب على مكتسبات ورموز وشرعية دولة الاستقلال، في إطار الصراع الأيديولوجي القائم، والذي وجد منذ تسع سنوات مجالا ليتحول إلى مؤامرة على المشروع الوطني، ويبدو أن الرئيس قيس سعيد وضع يده على بعض خيوطها.

عندما يقول راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان، إن البلاد تواجه خطر العجز عن دفع رواتب الموظفين وتوقف خدمات الماء والكهرباء، كان يعرف جيدا ما يقول، لكنه لم يكن قادرا على تفسير الأسباب الحقيقية للأزمة والتي كان لحركته دور مهم في وصولها إلى هذا الوضع المأساوي.

وعندما يحذر وزير الصناعة منجي مرزوق من إمكانية تعرض البلاد لأزمة كهرباء، فذلك يعني أن تونس تسير على خطى النموذج التدميري لتكريس الدولة الفاشلة في العراق ولبنان وليبيا.

وعندما يقول نورالدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، “تجاوزنا كل الخطوط الحمراء وشركة فوسفات قفصة والمجمع الكيميائي التونسي وحقول النفط هي مسألة أمن قومي” فهو يشير إلى وجود مؤامرة هدفها الدفع بالبلاد إلى الإفلاس الذي قد ينتج الفوضى.

اتحاد الشغل يعلم جيدا أنه مستهدف وبقوة، وخاصة من قبل الإسلام السياسي، أمينه العام صرح لأول مرة بأن النقابات ستقف في وجه ما اعتبرها خيارات إخوانية، الموضوع لم يعد خافيا فحركة النهضة التي نجحت خلال السنوات الماضية في تكريس طبقتها الاقتصادية الموالية لها، تندفع اليوم بخيارات اقتصادية لن تضر أتباعها وأنصارها ممن وفرت لهم رصيدا وافيا من الضمانات خلال سنوات تغلغلها في الدولة والمجتمع، ولكن ستؤثر سلبا على عامة الشعب الذي يعاني من الفقر والبطالة وتراجع الخدمات، ويتعرض في حياته اليومية الى مشاكل الاحتكار وغلاء الأسعار وانتشار الفساد والخوف من المستقبل.

قضية الإصلاحات الكبرى المعطلة في تونس لا تزال خارج إطار الجدل الاجتماعي، كل الحكومات التي تداولت على الحكم منذ تسع سنوات عجزت عن تناولها بشكل عملي، والسبب يعود لتراجع أداء الدولة وغياب الزعامات السياسية القادرة على تحمل مسؤوليتها التاريخية، خصوصا وأن تلك الإصلاحات عادة ما تستنزف الرصيد الشعبي لمن يديرها.

الإسلام السياسي الذي يتبنى اقتصاد السوق، ويجعل منه أداة لاسترضاء الفضاء الليبرالي الرأسمالي الغربي، يحاول أن يأكل الثوم بأفواه الآخرين. بينما الآخرون يخشون من القضاء على الدور الاجتماعي للدولة بخصخصة القطاع العام بما فيه الخدمي، الذي أثبت خلال أزمة كورونا أنه الجدار الأخير الذي يستند إليه المجتمع.

الخلافات الطاحنة في حكومة الفخفاخ كان من بين أسبابها تناقض المواقف بين مكوناتها حول طبيعة الإصلاحات، واتجاه النهضة لتشريك قلب تونس في الحكم له علاقة بالموضوع، لكن ككل مرة سيخرج الإسلاميون لمواجهة أي احتجاجات بالقول إنهم لا يحكمون أو أنهم مجرد شريك غير قادر على تغيير موازين القوى التي لا تخدم قناعاته.

سيكون على المشيشي أن يختار بين رؤيتي اتحاد الشغل والإسلام السياسي في معالجة الوضع القاتم، الأسابيع والأشهر القادمة ستضعه على المحك أكثر من أي رئيس حكومة سبقه إلى قصر القصبة، والأزمة التي تواجه البلاد تداعياتها ستفرض على الجميع واقعا مختلفا، وتتطلب حلولا جذرية قد تكون غير مسبوقة، لا يمكن الاستمرار على نفس المنهج، البعض يتحدث عن ضرورة التدخل الجراحي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن انتهى مفعول جميع المسكّنات.

أدت الأزمات السياسية المتلاحقة، والتدافع الإخواني للحصول على الجزء الأهم من غنيمة الحكم، إلى الإضرار بالقيمة الاعتبارية للدولة وأجهزتها ومؤسساتها ودورها.

عدم فهم بعض الأطراف لحكمة السياسة الخارجية التي تم اعتمادها منذ استقلال البلاد، أثر سلبيا على مسارات الدبلوماسية الاقتصادية والاستثمار، وحول تونس إلى دولة مؤدلجة بعقيدة ثورية تحت عمامة دينية منسوجة بحسابات شيخ القبيلة القطري المتآمر على جيرانه، والسلطان العثماني التركي الطامع في إخضاع المنطقة العربية لنفوذه.

المصالح الاقتصادية في هذه الحالة ستكون مرتبطة حتما بتاجر تركي أو قطري ينتظر أن تفلس مؤسسات الدولة التونسية ليشتريها بأبخس الأثمان، وعلينا هنا أن نعترف بشطارة الإخوان في التجارة وقدرتهم الفائقة على إدارة الصفقات.

إن الأوضاع في تونس اليوم تتزامن مع وضع إقليمي ودولي متأزم، حيث أغلب الدول تمر بظروف صعبة، وهذا سيفرض على المشيشي جهودا استثنائية لربط علاقات براغماتية مع الأشقاء والأصدقاء من خارج حسابات المحاور التي يحاول البعض الزج بالبلاد فيها، ليس هناك من يخاف النموذج التونسي الذي لا يختلف عن النموذجين العراقي واللبناني في البؤس الديمقراطي، وليس هناك من يتآمر عليه إلا من يريد إلحاقه بمشاريع إقليمية تستهدف أمن واستقرار دول بعينها.

عندما زار وزير الدفاع الإيطالي طرابلس الأسبوع الماضي، كان لافتا أنه اصطحب معه وفدا عسكريا ضخما بشكل لا يتكرر إلا في الأزمات الكبرى الإقليمية والدولية، المحادثات مع أركان حكومة السراج لم تتمحور فقط حول الوضع الليبي والعلاقات المشتركة، وإنما تطرقت إلى الوضع الإقليمي وتأثيره على ملف الهجرة في ظل ما اعتبره الإيطاليون أزمة اقتصادية طاحنة في تونس.

لكن هناك مشكلة أخرى خطيرة تتمثل في وجود المئات من الإرهابيين التونسيين يحملون السلاح في غرب ليبيا، بعد أن تم تدريبهم على أيدي الأتراك، بعض هؤلاء كان ممن تم تسفيرهم للقتال في سوريا ومنهم من تم استقطابهم مؤخرا، ويمثل وجودهم في المناطق المتاخمة للحدود الجنوبية الشرقية تحديا كبيرا للمؤسستين العسكرية والأمنية.

كيف سينجح المشيشي في إقناع الفاعلين السياسيين ومن بينهم قادة النهضة، أن الصراع على مركب مهدد بالغرق يعني التسريع بالكارثة؟ الحل الوحيد أن يتم استبعاد المتحزبين وأصحاب الأيديولوجيات والمصالح من الحكومة القادمة ضمن صفقة إنقاذ الوطن، وأن يتجند الجميع للعمل وإصلاح ما أفسدته الحسابات الضيقة، وعلى من أثبت فشله أن يعترف بذلك ليس بالقول وإنما بالانزياح قليلا عن سدة الحكم.

الاعتراف بأن البلاد في أزمة خانقة هو أول الطريق إلى تحديد أولويات المرحلة القادمة، وهذا ما يفرض اتخاذ قرارات مؤلمة، عندما تتعرض مصالح الدولة للخطر يصبح الحزم وحده سيد الموقف، الإصلاحات الكبرى لا تتحقق بالصراعات الحزبية ولا بالمزايدات العقائدية، وإنما بالقرار الحازم والحاسم الذي يضع كلا في مكانه مع تقدير الوضع الاجتماعي حق قدره، تونس تحتاج حاليا لحكومة كفاءات تعمل من خارج التجاذبات والمزايدات تدعمها سياسة خارجية متوازنة ومعتدلة يديرها الرئيس سعيد.

9