تأميم النقد

هل مسموح للشعب أيضا توجيه النقد للرئيس الذي جاء به الشعب، أو لمؤسسات الدولة التي يفترض أنها وجدت لكي تخدم الشعب.
الأربعاء 2019/01/23
هل النقد مسموح لسياسات الرئيس

يقف رئيس الجمهورية في مصر يوجه النقد الشديد اللاذع للوزراء والمحافظين والمسؤولين والإعلاميين بل وللشعب المصري نفسه، ويصفه تارة بأنه يعاني من الفقر (متعرفوش إن انتو فقرا أوي؟) وتارة أخرى من السمنة والترهل.

 وعندما يحاول على استحياء شديد، أستاذ جامعي وعضو برلماني، أي أحد نواب الشعب توجيه النقد لجانب من سياسات الرئيس خلال مؤتمر من المؤتمرات التي يعقدها الرئيس، ينبري له الرئيس ويوبخه على الهواء مباشرة، ويتهمه بالجهل بما يقول، بل ويهزأ منه عندما يسأله في حدة: من أنت؟ وهل درست الموضوع الذي تتكلم فيه؟

وكما هي العادة في المجتمعات “الفردانية” التي تخضع لحكم الفرد، الذي يعرف وغيره لا يعرف، تصبح انتقادات الرئيس على الفور حديث وسائل الإعلام، تتبناها وتقوم بتفسيرها وتلميعها والترويج لها بشتى الطرق، دون أي محاولة لمناقشتها أو الرد عليها، فمن نحن أمام “حكمة” الرئيس الذي أصبح الناقد الأوحد في مصر، وكما هي العادة يجتمع المسؤولون ويتم تشكيل اللجان وتصدر التعليمات لتحويل انتقادات الرئيس إلى واقع.

عندما جعل الرئيس من محافظ مدينة القاهرة مؤخرا، أمثولة على الملأ لكونه لا يعرف كم حققت محافظته من دخل، كما عجز عن معرفة عدد ما أنشئ من “كباري” (جسور) في محافظته في الأشهر الأخيرة، قامت القيامة على محافظ القاهرة وطالب البعض بإقالته أو استقالته.

وعندما وجه الرئيس انتقادات لاذعة للشعب المصري بسبب انتشار السمنة وزيادة الوزن، اتخذت قرارات عاجلة لفرض مادة الرياضة البدنية في المدارس وجعلها من المواد الأساسية!

لا بأس بالطبع من أن يوجه الرئيس النقد لمؤسسات الدولة أو للمسؤولين كما يرى ويشاء، وربما لا يجوز لنا الاعتراض على “الأسلوب” الذي يتبعه الرئيس في توجيه النقد، ولكن السؤال: وهل مسموح للشعب أيضا توجيه النقد للرئيس الذي جاء به الشعب، أو لمؤسسات الدولة التي يفترض أنها وجدت لكي تخدم الشعب؟ وهل نتمتع في مصر أصلا بـ”ثقافة النقد”؟ أم أن النقد ما زال يعتبر نوعا من التهجم و”تشويه الرموز”، وهي جرائم يعاقب عليها القانون؟

في العالم كله مسموح بمراجعة التاريخ: السياسي وغير السياسي، أما في مصر فقد أصبحت لدينا شخصيات “تاريخية” محصنة لا يجوز توجيه النقد إليها، وإن استنكرت هذا يُقَال لك: يجب أن يكون النقد موضوعيا، والمقصود بالنقد الموضوعي النقد الذي يمتدح ويرفع من شأن الشخص أو المؤسسة أو العمل الفني، إلخ..

في النقد السينمائي مثلا تشيع فكرة تعكس خللا عميقا في البنية الثقافية والمعرفية، فأصحاب هذه الفكرة يروون أن توجيه النقد لفيلم ما، يجب أن يتركز فقط على جوانبه الإيجابية، ولكن ماذا لو أن الناقد الذي درس موضوعه ومادته جيدا (كما يطالبنا الرئيس!) لم يعثر على نقاط إيجابية في الفيلم؟ ربما سيجيبك البعض بأن من الأفضل في هذه الحالة ألاّ تكتب نقدا من الأساس، أي تلجأ للصمت حتى لا يتهمك أصحاب العمل بأنك “تشتمهم”، فمفهوم النقد عند القطاعات العامة والنخبوية في المجتمع بمن في ذلك أساتذة الجامعات وعمداء الكليات والمعاهد العليا وغيرهم، أصبح يُعتبر نوعا من الشتيمة وتشويه السمعة.

لذلك يتم تمرير الكثير من الأبحاث والرسائل الجامعية المترجمة والمسروقة من أبحاث وكتب الآخرين، ويحصل سارقوها على درجات الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى، لماذا؟ لأنك إن تجرأت وكشفت مثل هذه السرقات، اتهمت بالتعدي على “أصحاب المقامات الرفيعة”.

وباعتباري كاتبا همه الأول والأساسي، السينما وصناعة السينما ودور الفيلم كفن في المجتمع، أتمنى فقط أن يتقبل المخرجون العرب ما يوجه إلى أفلامهم من نقد دون اتهام النقاد بالتآمر أو الزعم بأن هدف النقاد ما هو سوى تخريب صناعة السينما وإغلاق بيوتهم، ولكن ربما قبل أن يحدث هذا، يجب أن يصبح مسموحا لنا بتوجيه النقد لسياسات الرئيس دون أن يقال إنه الوحيد الذي يعرف وأننا لا نعرف!

16