بيير سولاج يطفئ شمعته المئة في متحف اللوفر

يحتفل الفرنسي بيير سولاج الملقب بـ”رسام ما وراء الأسود” بعيد ميلاده المئة هذا الشهر، وقد خصه متحف اللوفر بمعرض فني استثنائي في القاعة المربعة، التي لم تستقبل من الأحياء سوى شاغال وبيكاسو، اعترافا بغزارة عطائه وطول نفَسه.
ولد بيير سولاج في 24 ديسمبر 1919 بروديز في جنوب فرنسا، ولا يزال يمارس فنه بانتظام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأ الرسم صغيرا في مسقط رأسه، والتحق بمدرسة مونبلييه للفنون الجميلة، ثم انتقل إلى باريس في سن الثامنة عشرة لإعداد شهادة الأستاذية في الرسم والمشاركة في مناظرة الدخول إلى مدرسة الفنون الجميلة.
وكان وجوده في عاصمة الأنوار فرصة لارتياد المتاحف والمعارض حيث اكتشف بيكاسو وسيزان، ما دفعه إلى العودة إلى موطنه ليتفرغ لهوايته، ولكن الحرب قامت، فاضطر إلى التخفي هربا من “مصلحة الخدمة الإجبارية” تحت الاحتلال النازي، بمساعدة العاملين في مزارع الكروم.
وعند نهاية الحرب، استقر في باريس، وبدأ مسيرته الفنية عام 1946، وسرعان ما بدأ يقيم المعارض في أروقة باريس ونيويورك وهانوفر قبل أن تنفتح أمامه المتاحف الكبرى في روسيا وإنكلترا والدانمارك والبرازيل والولايات المتحدة.
واحتفاء بمئوية مولده يقام له معرض فني بمتحف اللوفر، يضمّ مختارات من أعماله طوال العقود الثمانية التي فرض خلالها نفسه كفنان غير تصويري، بما فيها أعماله الأخيرة، في ترتيب كرونولوجي يستطيع الزائر أن يتتبع فيه مسار من لُقّب بفنان السواد والضوء حينا، وفنان “ما وراء الأسود” حينا آخر، عبر أعمال تشهد على مختلف المراحل التي ارتبطت برغبة شديدة في إبراز الضوء بالمفارقة بين اللون الأسود والجوانب الصافية، أو بالتطابق والقَشط، أو باستخدام لون وحيد.
واعتبارا لقيمته وتميّز تجربته وغزارة إنتاجه، فتح له اللوفر أبواب القاعة المربعة، التي تقع بين غاليري أبولون والغاليري الكبرى، وكانت تسمى في ما مضى قاعة الأكاديميات. هذه القاعة لم يدخلها سوى فنانَيْن شهيرين هما بيكاسو وشاغال احتفاء ببلوغهما سن التسعين، ما يدل على المكانة التي يحظى بها سولاج في الساحة الفنية الفرنسية والعالمية.
اختار سولاج منذ بدايته الانخراط في تجريدية تامة، والتمرّد على معطيات الفن التقليدية، سواء عن طريق المواد المستعملة، كالقطران وقشور الجوز، أو بواسطة أدواته التي تحيل على دهّاني حظائر البناء، أو بتحديده اللوحات حسب التقنية والأبعاد وتاريخ الإنجاز. فقد تبنى بدل العنوان موقفا عبّر عنه منذ عام 1948، إذ كتب يقول “الرسم الفني كلٌّ منظَّم، هو جملة من الأشكال (خطوط، مساحات ملونة..) تنحط عليها أو تنفصل عنها المعاني التي نمنحها إياها”.
وبعد تجربة امتدت زهاء ثلاثين عاما، دخل سولاج مرحلة جديدة عام 1979. في تلك السنة، بينما كان يشتغل على إنجاز إحدى لوحاته، ظل ساعات يضع اللون الأسود على اللوحة ثم يزيله أو يقشطه، وهو حائر لا يدري ما يصنع، فترك اللوحة وغادر مرسمه. ولما عاد بعد ساعتين، لاحظ أن الأسود طغى على كل شيء، حتى بات غير موجود تقريبا.
من هنا تولّدت لديه فكرة علاقة الضوء بأطوار الصفحة السوداء. هذه التجربة هي التي صار يعرف بها الآن، وتتميز باشتغاله الدائم على علاقة اللون الأسود بالضوء، ولكن مع “ما وراء الأسود” الذي يتصرف في الانعكاس، تغير فضاءُ الرسم وزمنُه تغيرا راديكاليا، واكتسى تنوعا منيرا غير مسبوق.
وخلافا للأعمال ذات اللون الواحد، توجد في لوحات سولاج عدة أنسجة، ملساء، ليفية، هادئة، متوترة أو مضطربة، تلتقط النور أو ترفضه فتولّد ألوانا سوداء رمادية أو عميقة. ثم صار يشفع ذلك بإحداث تضاريس وأتلام وحزوز في المادة السوداء لتخلق تفاعل الضوء والألوان في الوقت نفسه. لأن موضوع عمله ليس القيمة السوداء في حدّ ذاتها بل الضوء الذي توحي به وتنظمه، أي أن عمله كان يهدف إلى بلوغ ما بعد الأسود، ومن هنا جاء مصطلح “ما وراء الأسود” لتصنيف لوحاته منذ نهاية السبعينات. فلوحاته العملاقة لا تظهر شيئا خارجا عنها، ولا تعكس إلاّ ذاتها.
واختياره التجريد ليس بدافع التقليد أو ركوب موجة، وإنما هو نابع من قناعة بألاّ جدوى من تصوير الأشياء. يقول في هذا الشأن “أنا لا أتمثل، بل أقدّم، ولا أنقل، بل أرسم”. ذلك أن مقاربته ليست خاضعة لتصوّر مسبق، وإنما هي تتولّد داخل اللوحة وهي تُرسم، وداخل التفاعل بين الرسم وإنجازه في مسار الخلق والعلاقة بالأشكال والأبعاد والأحجام والألوان. وفي هذا يشبه إلى حد بعيد هانس هارتونغ في طريقة توزيع الضوء والصورة.
يذكر أن سولاج، هو أحد مؤسسي هيئة “المثقفين لأجل أوروبا الحريات” عام 1978، وهو أيضا من مؤسسي قناة أرتي الفرنسية الألمانية. وإقامة هذا المعرض ليس الاعتراف الوحيد بمكانته، فمتحف فابر في مدينة مونبلييه يعرض لوحاته باستمرار منذ عام 2007، وبلدته روديز دشنت عام 2014 متحفا يحمل اسمه. ولا يزال حتى اليوم يتنقل بين باريس ومدينة سيت على ضفاف المتوسط ويمارس فنه بشغف لا يفتر.