بيير رابحي الكاتب العصامي والفلاح الذي انتصر للأرض بالقلم والمعول

الكاتب كان يرى نفسه طائر ضرّيس قادته الفلسفة إلى اكتشاف ذاته.
الجمعة 2021/12/10
أحد رموز الإيكولوجيا الزراعية

رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي بيير رابحي الكاتب العصامي والناشط البيئي الذي عُرف عبر العالم كرمز من رموز الإيكولوجيا الزراعية. وكان أول من دافع عن زراعة إيكولوجية خالية من المبيدات والسماد الكيميائي، وناهض بشراسة تدمير البيئة بدعوى تطوير نسب النمو. يهمنا في هذه الورقة أن نتوقف عند فلسفته في الحياة التي اختارها.

حياة بيير رابحي (1938 – 2021) في حدّ ذاتها رواية، فاسمه الحقيقي رابح رابحي، ولد في واحة القنادسة جنوب بشار في الصحراء الجزائرية. بعد وفاة أمه عهد أبوه بتربيته منذ نعومة أظفاره إلى معمّر فرنسي في وهران، فأطلق عليه المعمّر اسم بيير ونصّره، وبذلك نشأ الطفل على دين أبيه بالتبني وأفكاره السياسية المنادية بجزائر فرنسية، غير أنه واجه توبيخا مضاعفا من أبيه الأصلي حين علم بخروجه من ملّة أجداده، ومن أبيه بالتبني يوم انتقد سياسة الماريشال جوان في الجزائر.

ولما اندلعت حرب التحرير، وجد نفسه مُقصًى من الطرفين المتنازعين، فاختار الهجرة إلى فرنسا، وبدأ حياته المهنية عاملا في مصنع بضواحي باريس، حيث تعرف على عاملة ستكون زوجته وأم أطفاله لاحقا. غير أنّه ما لبث أن سئم الحياة الصناعية والعيش في المدينة أو ما أسماه “السجن الباريسي”، فارتحل إلى بلدة تين قرب جبال سيفين بمحافظة الأرديش حيث بدأ حياة جديدة كعامل فلاحي، وبذلك سبق حركة الريفيين الجدد التي ظهرت في مطلع الستينات.

طائر الضّرّيس

الكاتب عاش منسجما مع أفكاره مؤمنا بأن التخلص من الاستلاب يتم بإعادة امتلاك الجمال الذي تقترحه الطبيعة

عرف رابحي التمزق والقطيعة والمتاعب والعوز، وخاصة المتناقضات بين ديانة وأخرى، على مستوى التصور الميتافيزيقي وعلى مستوى المعيش اليومي، وبين مطالب جالية مستوطنة وشعب راغب في الحرية، ولم ينفك عن التساؤل منذ تمزقه الأول حين انتقل من واحة القنادسة إلى وهران “هل الحضارة الجديدة التي يعِدوننا بها عن طريق العمل والتكنولوجيا هي حقّا مصدر سعادة؟”.

ولكن ذلك كله لم يثنه عن التفكير في التعامل مع البيئة بمحبة الفلاح القديم، وعن طلب العلم والمعرفة بوسائله الخاصة. وكان يقول إن كل إنسان ينبغي أن يحاول معرفة نفسه حتى يغيّرها بطريقة إيجابية.

ساهم رابحي مع الكاتب والمخرج السينمائي والناشط البيئي سيريل ديون في تأسيس حركة “طيور الضّرّيس”، التي تدعو إلى أعمال محلية كالحدائق المشتركة والضيعات البيداغوجية ومسالك التزويد القصيرة.

واختيار رابحي للضّرّيس يعكس فلسفته في الحياة، فقد استند إلى أسطورة هندية أميركية تقول إن ذلك الطائر الصغير، إذا نشب حريق في غابة هبّ مسرعا ليجيء بقطرات من الماء يلقيها على النار محاولا إطفاءها، وهو ما يثير سخرية بقية الحيوانات.

ويعلق رابحي إنه مثل طائر الضّرّيس، ما انفكت مساعيه في البداية تقابَل بالسخرية والتشكيك في جدواها، ولكن إصراره أتى أكله، حتى صار يلقي المحاضرات عبر العالم، تحت رعاية الأمم المتحدة أحيانا، ويؤلف كتبا تلقى الرّواج، ويدعو إلى تطبيق نظريته الزراعية في بلدان شتى، تلك النظرية التي تقوم أساسا على رفض تدمير البيئة باسم التنمية المستدامة، التي يعتبرها حماقة معدّلة على النمو الاقتصادي.

منذ الستينات، هجر رابحي المتع الزائفة للحضارة الصناعية، واختار حياة زهد تقوم على ما أسماه “الرزانة السعيدة” واحترام الطبيعة. وكانت تجربته محط أنظار نشطاء البيئة ورجال السياسة وحتى المفكرين، يزورونه في ضيعته للوقوف على النتائج الملموسة التي حققها، والتعرف إلى هذا الكاتب العصامي الذي تحظى مؤلفاته بقبول حسن في فرنسا وخارجها.

في عزلته تلك، ارتد إلى ماضيه المتقلب حين كان خاضعا لمشيئة الآخرين، وانتهى إلى أنه لو قدر له أن يختار بنفسه لآثر البقاء في واحته والعيش وفق تقاليد أهلها، لأنه كان يشعر في كنفها بالسعادة.

ولكن عندما يُجتث المرء من بيئته يحتاج إلى البحث عن الحقيقة، ومن ثمّ قاده البحث إلى قراءة الفلاسفة، الإغريق بخاصة، ولو أنه لم يفهم منهم غير القليل في البداية، لأنه كان في وضع نفي سيكولوجي، كما يقول، عاجزا عن الانخراط في أي شيء. بيد أنه استطاع من خلال العمل الذي زاوله في المصنع القائم على هرمية عجيبة أن يفهم معنى العبودية، حيث يقوم مدير العمل مقام الإله الجبار، الذي يرفض بكلمة ويجيز بكلمة، ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه مخافة الطرد، وخسارة مورد رزقه؛ وذلك ما دفعه إلى التحرر من القيد ليخلق حريته، على رأي نيتشه، والسعي لأن يكون سيّد ذاته.

الفلسفة واكتشاف الذات

الكاتب أدان في نصوصه التسارع المطرد لغاية ليس لها نهاية هي النمو الاقتصادي، الذي حول الوجود إلى ميكانيكا غريبة

كانت العودة إلى الأرض بمثابة اللجوء إلى الأدغال، كالثوار، الأدغال المادية والنفسية أيضا، وذلك مكلف خصوصا لمن كان مثله لا يملك أرضا ولا مالا. ومن الطرائف أنه حينما التمس قرضا من البنك لمشروعه الزراعي الذي يعتزم بعثه، قال له الموظف بصريح العبارة “لا نريد أن نكون شركاء في انتحارك”. ذلك أن الأرض التي اختارها خالية، كثيرة الحصى، لا كهرباء فيها ولا ماء عدا ما يتم تخزينه من مياه المطر في صهاريج، ولا طرق غير ثنيّات يتعذر السير فيها عند نزول الأمطار.

ولكن الموضع يتّسم بالسكينة والهواء الصافي وجمال الطبيعة، وهي عناصر لا تدخل في حسابات الناتج الداخلي الخام، إلا أن رابحي اجتهد للحصول عليه فقط كي يستمتع بالحياة كما قال، واكتفى بتربية ثلاثين عنزة تحديدا، لأنه لم يكن ينوي تطوير مشروعه وتحويل ماشيته إلى ما يشبه معملا لتصنيع الحليب، وإنما كانت غايته إنشاء علاقة ألفة بعنزاته والمحافظة عليها. وكان يبيع بنفسه اللبن والأجبان ليوطّد علاقته بأهالي تلك الجهة، ويقيم معهم صداقة دائمة. ذلك الحرص على أن يحيا حياة مليئة، وأن تكون له علاقة وجدانية مع البشر والحيوانات والنباتات والأشياء بوجه عام، ساعده، هو وزوجته، ثم أطفاله الخمسة الذين رأوا النور هناك، على الصمود وتحقيق ما كان يروم تحقيقه.

 فقد استطاع بمعية زوجته التي يصفها بالـ”شجاعة” أن يحيي أرضا بعد موات، بوسائل بدائية، رافضا اللجوء إلى وسائل الزراعة الصناعية من مبيدات وأسمدة كيميائية، ما لفت انتباه سكان الجهة، ثم مسؤوليها، قبل أن يصبح حديث أهل الذكر في المنتديات ووسائل الإعلام في فرنسا كلها، خاصة بعد أن أدان في نصوصه الأولى التسارع المطّرد لأجل غاية ليس لها نهاية اسمها النمو الاقتصادي، الذي حوّل الوجود إلى ميكانيكا غريبة، و”نوع من جهاز تقطير سوائل كوني ترشح منه أسهم أرباح، بما في ذلك الأسلحة والفن المنذور للقتل” على حدّ تعبيره.

في لقاء جمعه بميشيل أونفري صرّح “الحداثة في نظري خدعة. هم يوعزون للناس بترك طريقتهم في العمل ونمط عيشهم بدعوى أن ذلك سوف يحرّرهم من أحمال الوجود، والحال أن التكنولوجيا انقلبت على من يفترض أنها ستحرّرهم، حيث أدى توحيد قياس التكنولوجيا إلى تشويه كل شيء، وسحب كل هوية من البشر للحصول على إنسان موحَّد، مكيَّفٍ مع منطق المنظومة. أشعر أن الحداثة، وتحالف التكنولوجيا والعلم وقوانين السوق، يتنكران لكل ما سبق”. ولا يعني ذلك أنه يقف ضد التكنولوجيا، وإنما هو يعيب نقصا فادحا في السيطرة عليها، لأن التقنية في نظره ليست محايدة.

عاش بيير رابحي منسجما مع أفكاره، يعتقد جازما أن التخلص من الاستلاب لا ينفصل عن إعادة امتلاك الجمال الذي تقترحه الطبيعة، من سكينة وهواء صاف ونجوم، ولكن ذلك للأسف لا يوجد في حصيلة كشف عام. وفي رأيه أن الاستلاب هو قبل كل شيء حين يَعدم الإنسان متسعًا من الوقت للتمتع بجمال الطبيعة. ولذلك يدعو إلى “الرزانة السعيدة”، وهو عنوان أحد مؤلفاته، التي استهلها بكتابه السيرذاتي “من الصحراء إلى سيفين أو إعادة امتلاك الحلم”، واختتمها بكتاب حواري جمعه بإدغار موران “إخوة السلاح”.

كان بيير رابحي معجبا بسقراط، لا يني يقول إن الفلسفة ساعدته على اكتشاف نفسه وفهم العالم، ويقرّ بأن قراءة الفلاسفة هي التي قدّمت له أجوبة. ويقول أيضا إن الحل لا يمر عبر السياسي، بل يمر عبر سموّ الوعي.

13