"بيوت من ورق" رواية تتابع حياة أهم شاعرة أميركية في القرن التاسع عشر

هناك من الشعراء من حقق مجده الأدبي بعد رحيله، وهي مفارقة تدعونا إلى تأمل مسيرة هؤلاء، كيف عاشوا؟ كيف كتبوا؟ ومن بين هؤلاء الشاعرة الأميركية الملهمة إيميلي ديكنسون، التي ما تزال حياتها تثير خيال المبدعين وهوس الباحثين، لما تمثله من مادة ثرية، ومن آخر ما قُدّم عن الشاعرة رواية للكاتبة والمترجمة الكندية دومينيك فورتييه.
يظل الغموض الذي يحيط بحياة الشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون (1830 – 1886) مصدر دراسة وإبداع، فهذه الشاعر لم تنشر إلا القليل من شعرها خلال حياتها، وعند مماتها تم الكشف عن خبيئة قصائدها التي بلغت 1775 قصيدة. لكن ما نشرته ونشر بعد ذلك من خلال نشر أحد أصدقائها، وهو توماس هيغنز، لقصائدها عام 1890 نال شهرة كبيرة لدى القراء الأميركيين وأيضا لدى القراء في مختلف لغات العالم التي ترجمت إليها. وهذا ما جعلها الآن شاعرة الشعراء وأهم شاعرة أميركية في القرن التاسع عشر دون منازع.
رواية “بيوت من ورق” للكاتبة والمترجمة الكندية دومينيك فورتييه، الصادرة عن دار العربي بترجمة نهى مصطفى، تغوص في باطن تلك الشخصية المثيرة للتأمل، وتلمس أشد مشاعرها حميمية وخصوصية، لنعرف لماذا اختارت الشاعرة حياة العزلة والوحدة عن العالم المحيط بها، ليضيق عالمها أكثر عاما تلو الآخر، كالحبل الذي يلتف حول نفسه، حتى يصبح مع الوقت عالمها وبيتها الحقيقي هو عالمها المصنوع من الورق الذي كتبته. وذلك عن طريق لغة شاعرية بامتياز، فيتكشف للقارئ الكثير من المشاعر الصاخبة التي لا يمكن التعبير عن أغلبها إلا بالصمت، والآلام التي لو خرجت من باطن الإنسان لأحرقت كل شيء.
قوة الشعر الغامضة
“بيوت من ورق” كتاب قصة حياة شاعرة اختارت العزلة؛ ورغم كتابتها لأكثر من 1700 قصيدة، إلا أنه لم ينشر لها وهي على قيد الحياة إلا 11 قصيدة فقط. لتصبح بعد موتها واحدة من أهم الشعراء في التاريخ. ويظل بيتها الورقي الخاص جدا شامخا، لا يمكن ليد النسيان أن تدركه. وتظل حاضرة حتى بعد ما “تقترب من النهاية.. إذ نصبح بمرور السنين مجموع كل تلك الجروح التي تقتلنا بهدوء”.
تقول فورتييه “تستطيع إيميلي أن تلمح بداية كل شيء ونهايته، لا تستطيع رؤية طفل رضيع دون أن تتخيل الرجل العجوز الذي سيصبح عليه. وبالمثل؛ عند رؤية رجل عجوز، يمكنها بوضوح رؤية الطفل الذي لا يتذكره”.
تستكشف فورتييه من خلال شعر ديكنسون، القوة الغامضة التي تتمتع بها تأثيرات الكتب على حياتنا، والطابع الهش والضروري للأدب، فتحكي من خلال تصوير خيالي رائع ولغة مضيئة ودقيقة تطورات حياة ديكنسون، انطلاقا من طفولتها وحتى مرحلة البلوغ مرورا بسلسلة من المقالات القصيرة التي تعرض تفاصيل حقيقية عن ديكنسون. تحكي أربعة نساء عشن حول ديكنسون ومعها، إنهن اللاتي جلبن قصائدها إلى العالم: أختها الصامدة، لافينيا، وعشيقة شقيقها أوستن الطموحة “مابل” التي تصغره بخمسة وعشرين عاما، وهي امرأة مفعمة بالحيوية وجميلة ورائعة ومتزوجة. لكن زوجها عالم فلك لا يأبه لتلك العلاقة بينها وبين أوستن، وصديقة إيميلي الحميمة وابنة عمها صوفيا هولاند.
تضيء فورتييه بشكل لافت فضل لافينيا في اكتشاف أعمال ديكنسون الشعرية، فهي التي وجدت قصائد أختها المفقودة ووجهت نظر العائلة والأصدقاء إليها، تستعين بمساعدة، أفضل صديقة لإيميلي وزوجة شقيقها أوستن وعشيقته مابل وابنتها، توقظ الجميع من اكتئاب عميق لترتيب القصائد بطريقة ما للتواصل مع الناشر. ابنة مابل، وهي فتاة صغيرة تشبه إيميلي في الروح، حكيمة وقوية الإرادة، ومفتونة بالأشياء الكبيرة والصغيرة في العالم من حولها. حساسة مثل الدانتيل مع خيوط داكنة تمر عبرها، هذه الفتاة تلعب دورا مهما في ترتيب القصائد. لقد طلبت لافينيا المساعدة للتأكد من أن كلمات ديكنسون وقصصها تستحق أن يراها العالم، إنها من أيقظ نساء العائلة من الحزن والحداد ليبدأن في ترتيب القصائد والبحث عن ناشر، ويبحرن في عالم أدبي يهيمن عليه الذكور، يتحدّين ذلك ويمنحن كل ما لديهن ليضعن شعر ديكنسون في مكانة جعلتها أحد أبرز الشعراء في عصرها.
من خلال شعر ديكنسون تكشف الرواية القوة الغامضة التي تمارسها الكتب على حياتنا والطابع الهش والضروري للأدب
تولي فورتييه في روايتها الكثير من الاهتمام للنباتات والحيوانات التي سكنت قصائد ديكنسون. في واحدة من أكثر مقاطع الكتاب شعرية، تجسد فورتييه الزهور في حديقة إيميلي، وتصف الورود بأنها “الأسوأ، منزعجة من النحل، منزعجة من الضوء الساطع، في حالة سكر على عطرها الخاص”.
وأيضا لحضور الموت في التفاصيل، حيث يبدو أن الموت ليس بعيدا أبدا، بدءا من فقدان إيميلي صديقتها الصغيرة وابنة عمها، صوفيا، بسبب التيفوس، وانتهاء ببرقيات وإشعارات الوفاة وحواراتها مع أختها لافينيا “تصطف الدعوات وإشعارات الوفيات التي وصلتهم طوال العام على الرف الذي يعلو المدفأة مثل إكليل، فاتح وداكن. واحدة تلو الأخرى، تختطف صديقاتها إما بسبب الزواج أو المرض. في عام واحد، حضرت إيميلي العديد من حفلات الزفاف والعديد من الجنازات، لدرجة أن عقلها يجد صعوبة في التفرقة بين جميع مراسم الوداع، التي تبدو فيها الفتيات الصغيرات متنكرات، وكأنهن لم يعدن أنفسهن. نرى الموتى فقط في الأحلام.
أما بالنسبة إلى الفتيات اللاتي يتزوجن، فبعضهن يزددن وزنا عند الخصر، وتصبح حركتهن أكثر فتورا، يمشين وكأن لديهن تشوهات في القدم، وكأنهن يضعن البيض بين أرجلهن. ثم لا يذهبن إلى أي مكان دون هذا المخلوق الوردي الصغير الذي يصرخ بين أذرعهن. ثم يتغيرن إلى الأبد. ترتجف إيميلي من الفكرة، تتجه إلى لافينيا، التي تحيك شيئا بالقرب من النافذة بينما القطة ترقد في حجرها، وتسألها: أي الشرين ستختارين.. الحب أم الموت؟.. تهز لافينيا كتفيها. هي على علاقة بشاب من البلدة ترضيها تماما ولا تشعر أنها بحاجة للحديث عنه. تنهض قائلة: سأحضر لنا بعض الشاي… بدأت أوراق الشجر تذبل بالفعل في الحديقة.
شاعرة تتأمل الموت
توضح فورتييه في مقابلة عند إصدار الكتاب باللغة الفرنسية أنه لم يكن كتابا عن الموت بقدر ما كان كتابا عمّا يحدث بعد ذلك. إنه يتعلق بما تبقى، وبما يتركه الناس وراءهم، وكيف تتحول حياتنا عندما يموت شخص ما؟ ليس لدينا خيار سوى إعادة البناء. وتقول “ما يهمني دائما هو الناجون”، وتضيف إن الكتاب لا ينتهي بالمؤلف الذي كتبه. الكتب هي الأشياء الوحيدة التي لا تموت، وقد تكون موجودة لأننا نموت. لن نحتاج إلى الكتابة لو كنا أبديين. وتتساءل “هل يجب تكريس النصف الثاني من الوجود لمحاولة العثور على الطريق مرة أخرى، أم للضياع بشكل أكبر؟ هل علينا أن نعيد خطواتنا لنجد طريق الخروج من المتاهة؟”.. وتجيب “الأدب يحميك ويعززك، لكنه يجبرك أيضا على الخروج من نفسك إلى شيء أكبر. أعتقد أن الكتب تساعدنا على العيش، وأن لها هذا الاستخدام الحقيقي والعملي للغاية”.
تقول في روايتها “تحفظ مخطوطات إيميلي ديكنسون في مكتبة هوتون بجامعة هارفارد، حيث لا يمكنك رؤيتها فعليا، ولكن يمكنك أن تطلع عليها إلكترونيا من خلال الإيميل، بالإضافة إلى نسخ من الرسائل التي أرسلتها لبعض معارفها. هناك أيضا غرفة تسمى غرفة ديكنسون، والتي تحتوي على مجموعة من الأشياء – أثاث وكتب وسجاد – كانت مملوكة للعائلة. يمكنك زيارة الغرفة – وهي ليست غرفة نوم حقيقية – كل يوم جمعة الساعة الثانية بعد الظهر. رؤية المعشبة أمر غير وارد، فهي هشة للغاية. أوراق الأشجار، مثل أوراق الكتاب، يمكن أن تتحول إلى غبار. توفر المكتبة نسخا طبق الأصل ونسخا مشابهة”.
وتضيف “أثناء إقامتنا في بوسطن، ذهبنا مرتين لزيارة جامعة هارفارد. تبدو مظللة بالأشجار الناضجة، مبانيها بالطوب الأحمر، مألوفة جدا من الأفلام، لدرجة أنك تشعر وكأنك تتجول في موقع تصوير فيلم وهناك ممثلون تمت الاستعانة بهم ليلعبوا دور الطلاب. وحتى نبات اللبلاب الملتصق بالمباني – والذي أطلق اسمه على جامعات رابطة آيفي المرموقة ومن بينها جامعات هارفارد وييل وبرينستون ودارتموث – يبدو أنه وضع هناك لإضافة اللون. في المرة الأولى التي زرتها فيها، انتهى بي الأمر باللجوء إلى مكتبة الحرم الجامعي الضخمة، ذات الرفوف الممتدة من الأرض حتى السقف. ورغم أن كل شيء في المكان بدا غير حقيقي، إلا أن الكتب وحدها كانت حقيقية”.
وتتابع “ما الذي تنتظره إيميلي في سن الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين؟ حب؟ إله؟ طائر أزرق؟ شخص سيقرأ أخيرا قصائدها بالطريقة التي تحلم أن تقرأ بها؟ أم الموت؟ الذي تبعده كل يوم بكتابة بضع كلمات أخرى، تعويذات هشة تخلق ومضات صغيرة، يراعات في الظلام. كتبت إيميلي: ‘عملي هو المحيط’ ويبدو أنها تتأرجح باستمرار على حافة الأشياء، بئر أو هاوية، بين عالم وآخر، على العتبة بين القصيدة وما لا يمكن وصفه، تفاحة في اليد، وقدم في القبر”.
الرواية تحكي من خلال تصوير خيالي رائع ولغة مضيئة ودقيقة تطورات حياة الشاعرة ديكنسون ورؤاها للعالم
وتلفت “يسكن الموت كل قصائد إيميلي، وليس الموت فقط، بل الاحتضار أيضا. اللحظة الأسمى، معلقة مثل القوافي في قصائدها، مثل ندفات الثلج في العاصفة. حين يبدو أنها في منتصف الطريق، تنظر إلى السماء، وتتفقد السحب باحثة عن المعنى.. ولكن يبدو الأمر غائبا كما تغيب شمس شهر يونيو؛ مثل رجل مشنوق يتأرجح، في نهاية الحبل”.
وتقول فورتييه “لقد وصلت إلى عمر أصبح فيه عدد الموتى أكثر من عدد الأحياء في دائرة معارفها.. صوفيا والأب والأم وجيلبرت ذو الخصلات الشقراء. يستريحون تحت العشب الأخضر. قد يبدو أن الأرض تخلو من سكانها، لكن السماء لا تبدو أقل فراغا. ومع ذلك، تأكد من أن الجالسين على المائدة السماوية الطويلة، الأب والأم، ينظران بنظرات صارمة كعادتهما، ينتظران أطفالهما، الذين تأخروا مرة أخرى. خلال الأيام القليلة الماضية، بمجرد أن تضع رأسها على الوسادة، تسمع أجراسا. بعد أن أمضت حياتها تشكك في وجود الرب، أصبح لديها الآن كاتدرائية في رأسها. لقد لازمها شعور دائم بأن شخصا ما يتبعها. عندما كانت فتاة صغيرة، كانت تجلس على مقعد البيانو وساقاها متدليتين، وتعزف بعض النغمات لتجذب مطاردها، ثم تستدير بسرعة. لكن لم يكشف هذا الشخص عن نفسه”.
وتضيف فورتييه “عندما كانت تتجول في الحديقة، كانت تتوقف للحظة بالقرب من شجرة، تضغط نفسها على الجذع، وتحدق في الطريق الذي سلكته. لكن الشخص لا يظهر. هذا الظل يسير خلف ‘إيميلي’ في الشارع، وفي ظل المنازل، يتبعها إلى القبو عندما تذهب لإحضار البطاطس. يجلس إلى جانبها في ماء الحمام الدافئ، ويستلقي معها على الملاءة القطنية، وكلاهما يقرآن الصفحة نفسها، من الكتاب نفسه. بمعنى ما، هذا مؤكد.. ‘إيميلي’ ليست وحدها أبدا. يقفان معا أمام النافذة. لا يوجد قمر، لكن النجوم لامعة للغاية لدرجة أنها تشعر وكأنها تنظر إليها من خلال عدسة مكبرة. تشكل النجوم رسومات مألوفة في السماء، إنها خريطة للأنهار والمدن والصحاري. في مكان ما هناك، في نهاية طريق متناثر بالحصى الأبيض، تضيء ‘ليندن’. ‘إيميلي’ وموتها يرتحلان معا في شهر مايو. في شهادة وفاة ‘إيميلي ديكنسون’، بجوار كلمة المهنة، كتبت يد دقيقة تماما.. في المنزل”.
يشار إلى أن دومينيك فورتييه كاتبة ومترجمة كندية تعيش بمدينة مونتريال تم ترشيح روايتها الأولى “حول الاستخدام السليم للنجوم” لجائزة الحاكم العام، وفازت روايتها “في خطر البحر” بالجائزة نفسها للرواية الفرنسية. وهي مؤلفة لستة كتب، كان آخرها “جزيرة الكتب” وفازت روايتها “بيوت من ورق” بجائزة “رينودو الأدبية العريقة كأفضل رواية في عام 2020.