بين هشام جعيط وهالة الوردي سجال لا يؤسس لمعرفة

المؤرخ يتهم الكاتبة بالاحتيال وهي ترد بلعنة فيما المثقفون مستاؤون.
الخميس 2019/05/09
بين جعيط والوردي سجال لا يرقى إلى مناظرة أو جدال

جدل كبير أثاره آخر كتب الأكاديمية التونسية هالة الوردي، ألا وهو “الخلفاء الملعونون” الذي جاء بعد كتابها المثير “الأيام الأخيرة لمحمد”، لكن المثير أن الساحة الثقافية التونسية والعربية لم تنشغل سوى بالجدال الذي ثار بين صاحب كتابي “السيرة المحمدية” والفتنة الكبرى” المؤرخ التونسي هشام جعيط، الذي قدم ردا لا علميا وقاسيا على هالة الوردي، وبدورها انساقت هي أيضا لترد على ما اتهمها به، بعيدا عن الجدل العلمي.

جرت العادة لدى أهل الاختصاص أن يواجهوا خصومهم بالحجة والبرهان، يستوي الأمر في حالي الدفاع والطعن، إذ درج العلماء والمفكرون والمؤرخون على الاستناد إلى الحقائق العلمية الثابتة، وحتى تلك التي لم يحصل حولها إجماع، لتحمل ردودهم سمات معرفية. غير أن المؤرخ التونسي هشام جعيّط شذّ عن القاعدة.

ردود واستياء

نشر هشام جعيط في جريدة الصباح بتاريخ 24 أبريل الماضي مقالة هزيلة من جهة لغتها وأسلوبها، شنّ فيها هجوما عنيفا على هالة الوردي أستاذة الآداب والحضارة الفرنسية بجامعة تونس المنار، عقب صدور كتابها “الخلفاء الملعونون”، وعدّه من “صنف التاريخ المزوّر”، و“التحايل الفظّ على علم التاريخ”، واعتبر أن الكتاب ذو منحى أيديولوجي، فيه “تحقير لفترة من التاريخ أعطتها (الكاتبة) شكل الرواية، وأعطت من وراء ذلك الرواية شكل التاريخ المدقَّق والموثَّق،… فهو تزوير على الأدب وعلى التاريخ في آن”. وختم تصريحه بقوله “إني آسف أن أنزل من مقامي إلى مثل هذا السجال”.

ولم يكن ردّ هالة الوردي أرقى مستوى، فقد كتبت تقول “لا تنزل من مقامك، أنا صاعدة إليك”، ثم عابت على جعيّط “أسلوبه الفظ” و”لغته العنيفة” و”اتهاماته غير المعللة”، ورأت في تدخله ذاك “عجزا مخجلا عن الجدال العلمي”، مثلما رأت فيه علامة انزعاج من انتمائها إلى المركز الفرنسي للبحث العلمي، وحسدا من الأسلوب السردي الذي توخته في كتابة التاريخ، لتلامس أكبر قدر ممكن من القراء غير المتخصصين.

ولم تغفل الوردي عن الإشارة إلى خلطه بين السرد والرواية، وغيرته من كل من يقرب التاريخ الإسلامي وكأنه ملكٌ حازه لنفسه. غير أنها ختمت ردّها هي أيضا بلعنة جهدت في إخفائها، إذ كتبت “هل ألعنك كما لعنت فاطمة أبا بكر الصدّيق لأنه حرمها من ميراثها كما تحاول أنت حرماني من الإرث المعرفي؟”.

عدد من المثقفين، الأكاديميين بخاصة، استاء من الموقف المتعالي الذي اتخذه هشام جعيط من كتاب هالة الوردي
عدد من المثقفين، الأكاديميين بخاصة، استاء من الموقف المتعالي الذي اتخذه هشام جعيط من كتاب هالة الوردي

استاء عدد من المثقفين، الأكاديميين بخاصة، من الموقف المتعالي الذي اتخذه هشام جعيط من كتاب هالة الوردي، والمناكفة التي لا تليق برجل في قيمته، واللهجة المنافية لما يقتضيه الجدل العلمي وحتى الأيديولوجي. فقد صرّح شكري المبخوت في إحدى تدويناته “هذه ليست المرة الأولى التي ينتصب فيها الأستاذ جعيّط محقّرا أعمال تونسيّين آخرين”، وذكّر بموقفه حينما منع المجلسُ الإسلامي الأعلى مجموعة كتب ليوسف الصدّيق عن القصص القرآني في سلسلة أشرطة مرسومة بحجج واهية، وكفّره، فقد صرّح جعيّط في حوار لمجلّة “حقائق” عام 1990 في القسم الفرنسي منها قائلا “يسعى (المؤلّف) من خلال هذه المبادرة إلى الفضيحة، اعتبارا بما وقع من قبل. وقد يكون الأمر مرتبطا كذلك بمبادرة ترمي إلى غرض تجاريّ. وعلى كلٍّ، هو كتاب مستفزّ ولم يكن ضروريّا”. وأضاف “أنا شخصيّا لا أرى فائدة في طبع مثل هذا الكتاب”.

ويختم المبخوت تدوينته بقوله “إنّ احتقار جهود الآخرين قديم في مواقف الأستاذ جعيّط للأسف. ولو اتبعنا نصائحه ما كان ينبغي لأحد أن يكتب كتابا وينشره على الناس قبل أن يرضى عنه الأستاذ”.

ولكن نهض من يدافع عن موقف جعيّط، ويجد لفظاظته الأعذار، كغيرته على اقتحام علم التاريخ ممن ليس أهلا له، والسبب فيما يذكر أسعد جمعة في مقالة له بالفرنسية على أحد المواقع الإلكترونية شكّ الأستاذ جعيّط في نسبة الكتاب إلى صاحبته، وهو ما سبق أن نبّه إليه المرحوم محمد الطالبي عقب صدور كتابها الأول “أيّام محمّد الأخيرة”، فلم يُعرف عن هالة الوردي اهتمام بالتاريخ الإسلامي أو بحث في الإسلامولوجيا، ولا إلمام باللغة العربية القديمة. ورغم تخصصها في الآداب الفرنسية وحضارتها، لم تنشر سوى بضع مقالات عن كاتب فرنسي تجريبي هو ريمون كينو. فكيف استطاعت في هذا الظرف الوجيز أن تستنطق اللغات السامية المعاصرة لعربية الإسلام، والوثائق السريانية والإغريقية لذلك العصر، وأن تستقرئ المصادر التقليدية الأساسية التي يعتمدها المُؤرّخون كسيرة ابن اسحق، وسيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وأنساب الأشراف للبلاذري، ومغازي الواقدي وتاريخ الرسل والملوك للطبري، وسائر المراجع التي أوردتها في هوامش الكتابين؟

وفي رأيه أنها لا تتقن العربية ولا الفرنسية، وأنها تستكتب شخصا يفضل البقاء في الخفاء، وأن غايتها ليست سوى إرضاء الفرنكفونيين، وهم الذين اعتادوا التهليل لكل ما يسيء إلى الإسلام ويظهر رموزه في صورة غير التي عهدوها، لتحقيق مبتغاها المتمثل في الالتحاق بالمركز الفرنسي للبحث العلمي. وهو ما توقعه محمد الطالبي قبيل وفاته عام 2017، إذ قال، والعهدة على الأستاذ أسعد جمعة، “هالة الوردي هي اليوم عضو مشترك في مختبر الدراسات في ديانات التوحيد بالمركز الفرنسي للبحث العلمي. كل الدلائل تشير إلى أنها ابتدعت روايتها عن محمد هناك، على أمل الانتداب ضمنه. ولا أستغرب أن يتم ذلك في مفتتح السنة الجامعية المقبلة”.

المؤرخ والساردة

ثمة من حاول تفسير أصل الخلاف، بين رجل يتخذ من التأريخ حرفة ولا يكون هدفه سوى التاريخ، وبين آتية إلى التاريخ من بوابة اللغة والآداب الفرنسية، ما يجعل سعيها مربكا أبستمولوجيا وعلميا؛ فقد أوضح عالم الاجتماع صالح الجويني في تدوينة على الفيسبوك أن الخلاف يدور حول منهجية التعاطي مع التاريخ، وهو هنا المرحلة التأسيسية للإسلام. فالأستاذ جعيّط يعتمد على ظاهراتية هوسرل والمنهج التفهُّمي لدى ماكس فيبر، ويقوم على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، ولا تلاحظ مباشرة، وإنما يتم النفاذ إلى تلك الدلالات بواسطة التأويل، فتحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في نفس الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.

وجعيّط يعتبره السبيل الوحيدة للعلمية التاريخية. أما الأستاذة هالة الوردي فهي تتحصن بالسرد كما تَصوّره بول ريكور بوصفه آلية منهجية تدخل الحدث في الزمان فيكتسب قوّته من الحبكة. وفي رأي الجويني أن المعيب علميا وأبستمولوجيا هو الاعتقاد المغالي الذي يعتبر أن هذه الآلية المنهجية أو تلك هي المصدر الأوحد للعِلمية. فما ذلك سوى وثوقية علمية جديدة لا تختلف جوهريا عن العِلموية.

والخلاصة أنه سجال لا يرقى إلى مناظرة أو جدال، بين مؤرخ لا يمنع نفسه عن احتقار غيره من المشتغلين على التاريخ، سواء في دروسه أو في كتاباته، وكأن التاريخ لديه رأسمال رمزي يحتكره لنفسه، وبين ساردة غير متخصصة لا ترى غضاضة في عرض كتابها رفقة سفير فرنسا بتونس، ما يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة عن “الخلفيات الحقيقية للبعد الأبستيمولوجي للسرد الذي تتجمّل به”، بعبارة صالح الجويني.

15