بين جميع أعداء الفن.. الثقافة هي العدو الأشد خطورة

كلايف بل: الفن والدين طريقان بهما يهرب البشر إلى الوجد.
السبت 2023/05/13
كيف نرى الفن اليوم

تحرر الفن من التنظير المسبق ومن الارتهان إلى الفلسفة والفكر والثقافة السائدة وحتى التقنيات والضوابط، وبات مفتوحا أكثر على مجاهل يخافها الكثير من التقليديين. ورغم أن الفن بلا تعريف نهائي فإنه مازال يحتاج إلى فهم تحولاته وتشكلاته وتجدد جمالياته وأنماطه.

يضع الناقد الفني الإنجليزي، وأحد أعضاء رابطة بلومزبري كلايف بل في كتابه “الفن” نظرية مكتملة في الفن البصري، حيث قدم فرضية يمكن بالإحالة إليها أن تختبر وجاهة الأحكام الإستطيقية جميعا، خيوط هذه الفرضية تتمثل في “الانفعال الجمالي” و”الشكل الدال” و”التمثيل” و”الفرضية الميتافيزيقية” بمفاهيمها الأساسية التي بها اتخذ الذوق الجمالي أبعادا ثورية.

يقول بل “يطوي كل منا جوانحه على اعتقاد بأن هناك فرقا حقيقيا بين الأعمال الفنية وجميع الأشياء الأخرى، هذا الاعتقاد تبرره فرضيّتي. إننا جميعا نشعر بأن الفن هام غاية الأهمية، وفرضيتي تقدم السبب في اعتباره كذلك، والحق أن الميزة الكبرى لفرضيّتي هذه أنها تبدو مفسرة لما نعرف أنه حق، ومن يهمه اكتشاف السبب الذي يجعلنا نطلق على سجادة فارسية أو جدارية لبييرو دلا فرانشيسكا عملا فنيا، ونطلق على تمثال نصفي أو لوحة شعبية تعالج مشكلة عملا ساقطا؛ من يهمه اكتشاف ذلك سوف يجد هنا ضالته، وسيجد أيضا أن الرواسم المألوفة في النقد، من مثل ‘رسم جيد‘، ‘تصميم رائع‘، ‘آلي‘، ‘غير محسوس‘، ‘غير منظم‘، ‘حساس‘، سيجد هذه المصطلحات قد أخذت ما تفتقر إليه أحيانا: معنى محددا، وباختصار فإن فرضيتي تعمل بنجاح، ذلك شيء غير معتاد، وبدت للبعض لا ناجعة فحسب بل صحيحة، تلك شبه أعجوبة”.

يقول كلايف بل في مقدمته للكتاب الذي ترجمه الأكاديمي عادل مصطفى وقدم له وصدر عن مؤسسة هنداوي بتصدير أستاذ الفلْسفة ميشيل متياس “حاولت أن أجترح تعميما عن طبيعة الفن يتكشف أنه صحيح ومتسق وشامل في آن معا، لقد التمست نظرية يتعين أن تفسر خبرتي الإستطيقية كلها وتومئ إلى حل لكل مشكلة، ولكنّني لم أحاول أن أجيب بالتفصيل عن جميع الأسئلة التي طرحت نفسها، أو أن أقتفي أيّ واحد منها إلى أدق تفريعاته”.

ويضيف “إن علم الإستطيقا شأن معقد، وكذلك هو تاريخ الفن، وقد أملت أن أكتب فيهما شيئا بسيطا وصائبا، فرغم أني، مثلا، قد أشرت بوضوح شديد، بل بتكرار كثير، إلى ما أعتبره جوهريا في العمل الفني، فأنا لم أتناول العلاقة بين الجوهري وغير الجوهري بالإفاضة التي كان يسعني تناولها؛ فقد بقي الكثير الذي لم يقل عن عقل الفنان وطبيعة المشكلة الفنية، وبقي لمن هو فنان وسيكولوجي وخبير بالعجز الإنساني أن ينبئنا إلى أيّ مدى يكون غير الجوهري وسيلة ضرورية إلى الجوهري؛ أن ينبئنا ما إذا كان من السهل أو الصعب أو المستحيل على الفنان أن يدمر كل درجة في السلم الذي يرتقي عليه إلى النجوم”.

الفن والدين

◙ كلايف بل يرى أن الفن والدين طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد
◙ كلايف بل يرى أن الفن والدين طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد

ويرى أن الفن والدين طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد، وبين الوجد الإستطيقي والوجد الديني ترابطٌ أسري؛ فالفن والدين وسائل إلى حالات ذهنية متشابهة، وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن علم الإستطيقا ونتفحص، متجاوزين انفعالنا وموضوعه، ما في ذهن الفنان، فقد نقول (بتبسط كبير) إن الفن من تجليات الحس الديني، فإذا كان الفن تعبيرا عن انفعال فهو تعبير عن ذلك الانفعال الذي هو القوة الحيوية في كل دين، أو هو على أيّ حال يعبّر عن انفعال نحو ذلك الذي هو جوهر الكل، وقد نقول إن كلا من الفن والدين هو من مظاهر الحس الديني للإنسان، إذا كنا نعني ﺑ”الحس الديني للإنسان” حسه بالواقع النهائي.

أما الذي يجمل بنا ألا نقوله فهو، كما يقول، أن الفن تعبير عن أيّ ديانة معينة؛ لأننا بذلك نخلط بين الروح الدينية وبين القنوات التي أجبرت فيها هذه الروح أن تجري. إنه خلط بين النبيذ والقارورة؛ فقد يكون للفن شأن كبير بذلك الانفعال الكوني الذي وجد تعبيرا فاسدا ومتلعثما في ألف عقيدة مختلفة: ولكنه لا شأن له بالوقائع التاريخية والخيالات الميتافيزيقية، ومما يؤكد ذلك أن كثيرا من فنون التصوير الوصفي أبواق دعاية وشروح للعقائد الدينية، وأيضا استعمال مناسب جدا للتصوير الوصفي، ويقينا إن موطن الضعف في الكثير من الصور الجيدة هو العنصر الوصفي المقحم من أجل التهذيب والإرشاد، ولكن بقدر ما تكون صورة ما عملا فنيا فلن يكون لها شأن بالعقائد والنظريات أكثر من شأنها باهتمامات الحياة اليومية وانفعالاتها.

ويلاحظ  بل أنه في أيّ عمل فني، لا شيء يتصل بالموضوع إلا ما يسهم في الدلالة الشكلية؛ ومن ثم فكل عنصر إرشادي أو إخباري هو عنصر خارج عن الموضوع ويتعين إقصاؤه. غير أن ما ينبغي على معظم الفنانين أن يعبروا عنه هو أشياء لا يمكن أن تصاغ إلا في تصميمات بالغة التعقيد والدقة بحيث تغدو غير مفهومة ما لم يزودنا الفنان بمفتاح ما يفتح لنا مغاليق العمل ويظهرنا على جليته؛ فهناك مثلا تصميماتٌ كثيرة لا يمكن أن يفهمها المشاهد ما لم ينظر إليها من زاوية معينة؛ فمن الأعمال ما يحسن أن ترى من أعلى إلى أسفل أو العكس، يؤيد ذلك ما نراه من أن ذوي الحساسية المرهفة من الناس بمقدورهم دائما أن يكتشفوا من التصميم نفسه كيف ينبغي أن يبصروه، وبمقدورهم دون كثير عناء أن يضعوا وضعا صحيحا قطعة من شريط زينة أو من شيء مطرز لا يتضمن أيّ مفتاح إرشادي يدلّهم. ورغم ذلك فعندما يصنع فنانٌ تصميما معقدا يجد في نفسه رغبة مغرية، ومعقولة حقا، في أن يدخل في تصميمه شيئا ما مألوفا؛ شجرة مثلا أو هيئة شخصية.

◙ يجب نفض غبار المعرفة المصنوعة عن الحساسية البشرية لنتمكن من تخليصها من وطأة التراث وجور الثقافة

عندما ينتهي الفنان من وضع عدد من العلاقات بالغة الدقة بين أشكال بالغة التعقيد، فقد يسائل نفسه إن كان بقدرة أي شخص آخر أن يدركها، ألا يليق به عندئذ أن يقدم إشارة ضئيلة تلمح إلى طبيعة تكوينه وتمهد السبيل لانفعالاتنا الإستطيقية؟ ألا ييسر فهمنا للعلاقات الإستطيقية للأشكال التي خلقها في تصميمه أن يمنح هذه الأشكال قدرا من الشبه بأشكال الحياة العادية يتيح لنا أن نردها للتو إلى ما عهدناه وألفْناه؟ ردي على ذلك أن لا بأس بأن تدخل من الباب الخلفي للتمثيل  الذي يتصف به مفتاح مرشد إلى طبيعة العمل، فليس لديّ اعتراضٌ على وجوده، كل ما أريد أن أؤكده هو أن العنصر التمثيلي يجب أن يكون مدمجا في التصميم كي لا يفسد اللوحة بوصفها عملا فنيا. إن على العنصر التمثيلي مهمة مزدوجة؛ فإلى جانب تقديم معلومات فلا بد له أيضا أن يخلق انفعالا إستطيقيا؛ أي لا بد أن يبسط إلى شكل دال.

ويؤكد بل أن أغلب البشر لن يكونوا قادرين أبدا على إسداء أحكام إستطيقية مرهفة، فالحساسية الوثيقة في الفن البصري هي في ندرة الأذن الموسيقية الجيدة على أقل تقدير، وما من أحد يتصور أن جميع الناس قادرون على تقييم الموسيقى أو أن الأذن الكاملة يمكن أن تكتسب بالدراسة.

ويضيف “وحدهم الحمقى من يتصورون أن القدرة على التمييز الدقيق في الفنون الأخرى ليست ملكة خاصة، ورغم ذلك فليس هناك ما يمنع أن ترهف الأغلبية العظمى من حساسيتها أكثر مما هي عليه بكثير؛ فالأذن يمكن أن تدرب إلى مدى، إما للوصول إلى إدراك عال للفن، وكذا الوصول إلى إبداع سخي؛ فالأمر يحتاج إلى انطلاق أبعد. إن تسعة وتسعين من كل مئة زائر لمعارض الصور يجب أن يعتقوا من هذا الجو المتحفي الذي يحجب الأعمال الفنية ويخنق المشاهدين. هؤلاء التسعة والتسعون ينبغي تشجيعهم على أن يقربوا الأعمال الفنية بجسارة وأن يقيموها بما هي، وكثيرا ما يكون هؤلاء أكثر حساسية للشكل واللون مما يظنون”.

ويتابع المؤلف “لقد رأيت أشخاصا يبدون ذوقا مرهفا في الأقطان والكاليكو وأشياء غير معترف بها كفن لدى القائمين على المتاحف، ثم لا يترددون في الإقرار بأن أيّ لوحة لأندريا دل سارتو لا بد أن تكون أجمل من أي لوحة لأحد الأطفال أو أحد الهمجيين؛ فهم حين يتناولون الأشياء التي لا ينتظر منها أن تحاكي الأشكال الطبيعية أو تشابه الروائع القياسية، نراهم يطلقون العنان لحساسيتهم الأصلية، ولا تحل بهم الإعاقة التامة إلا في وجود فهرس. إن هيبة التراث هي ما يجثم على المشاهدين والمبدعين، وإن المتاحف عرضةٌ تماما لأن تصبح اجتماعات سرية للتقاليد”.

المعرفة المصنوعة

◙ المجتمع بإمكانه أن يصنع خيرا لنفسه وللفن بأن ينفض عن المتاحف وصالات العرض غبار الثقافة المصنوعة
◙ المجتمع بإمكانه أن يصنع خيرا لنفسه وللفن بأن ينفض عن المتاحف وصالات العرض غبار الثقافة المصنوعة

يرى بل أن بإمكان المجتمع أن يصنع خيرا لنفسه وللفن بأن ينفض عن المتاحف وصالات العرض غبار الثقافة المصنوعة وعبق عبادة البطولة، فلنحاول أن نتذكر أن الفن ليس شيئا يبلغ بواسطة الدرس، لنحاول أن نراه كشيء يستمتع به كما يستمتع المرء بحالة حب، وأول شيء علينا أن نفعله هو أن نخلص الانفعالات الإستطيقية من استبداد الثقافة المصنوعة.

ويضيف “أذكر أني كنت جالسا يوما خلف سائق حافلة قديمة تجرها الخيول، وإذا بصف من حملة الإعلانات يعبرون طريقنا حاملين ملصقة ‘الإمبراطورية‘، وكان اسم Genée على الإعلان، قال السائق ملتفتا نحوي ‘البعض يسمي هذا فنا، ولكن سلنا نحن عن الفن‘. وأضاف ‘لعل شعري الطويل قد اكتشف زميلا ذواقة، إذا كنت تريد الفن فعليك أن تلتمسه في المتاحف‘”.

ويتابع “لست أدري كيف نقذف بهذا الهراء الخبيث خارج رؤوس الناس. لقد قذف به داخلها بوقار كبير ولأمد طويل معلمو المدارس والجرائد اليومية والكتب الدراسية الزهيدة والمؤرخون المتبحرون وزوار المناطق والوزراء ورجال الدين ورجال الدولة وقادة حزب العمال والممتنعون عن المسكرات ومناهضو القمار والمتبرعون للدولة من كل صنف، بحيث أوقن أن يحتاج إلى قول أبلغ وأشجع من قولي ليقذفها خارجا مرة أخرى، غير أنها يجب أن يطاح بها خارجا قبل أن يمكننا أن نظفر بأيّ حساسية عامة للفن؛ لأنها ما بقيت في أذهان الناس فإن العمل الفني بالنسبة إلى تسعة وتسعين في المئة منهم سوف يموت لحظة يدخل صالة عرض عامة”.

الفن تعبير عن أيّ ديانة معينة؛ لأننا بذلك نخلط بين الروح الدينية وبين القنوات التي أجبرت فيها هذه الروح أن تجري
◙ الفن تعبير عن أيّ ديانة معينة لأننا بذلك نخلط بين الروح الدينية وبين القنوات التي أجبرت فيها هذه الروح أن تجري

ويطالب بل بوجوب أن ننفض عن الحساسية البشرية غبار المعرفة المصنوعة، ونخلصها من وطأة التراث، ولا بد أيضا أن نخلصها من جور الثقافة؛ فبين جميع أعداء الفن قد تكون الثقافة هي العدو الأشد خطورة لأنه الأشد خفاء، وقد تأتي كلمة ثقافة بطبيعة الحال لتعني شيئا لا غبار عليه مطلقا؛ فالثقافة قد تعني ضربا من التربية لا يهدف إلا إلى شحذ الحساسية وتقوية القدرة على التعبير عن النفس، إلا أن هذا النوع من الثقافة ليس للبيع. إنه يواتي البعض من التأمل الفردي، ويواتي البعض الآخر من الاتصال بالحياة، وفي كلتا الحالتين فهو لا يأتي إلا لأولئك الذين يقدرون على استخدامه. أما الثقافة الشائعة، من الجهة الأخرى، فهي تشترى وتباع في سوق مفتوحة.

ويضيف بل إن “المجتمع المثقف، بالمعنى الاعتيادي للكلمة، هو كتلةٌ من الأشخاص الذين علموا أن يميزوا ‘الحلو والطيب‘، والشخص المثقف هو شخص لم يفرض الفن نفسه عليه بل فرض، شخصٌ لم تغمره دلالة الفن، بل يعرف أن أعلى الناس تهذيبا ورقيا يولونه اهتماما عجيبا، يتميز هذا الوسط المثقف بأنه رغم اهتمامه بالفن هو لا يأخذ مأخذ الجد، الفن عند هذا الوسط ليس ضرورة بل ترف، ليس شيئا ما قد يصادفه المرء وينغمر به بين صفحات Bradshaw، بل شيء علينا أن نطلبه ونثني عليه في أوقات مناسبة وفي أماكن محددة”.

ويتابع “لا تستشعر الثقافة توقا مسيطرا إلى الفن كالذي يستشعره المرء تجاه الطباق، بل تنظر إلى الفن كشيء يجب أن تتناوله بجرعات محتشمة معتدلة، مثلما يود المرء أن يتناول الرفقة من معارفه الأقل تشويقا. والتعامل مع الفن هو عند الطبقات المثقفة مثل الممارسة الدينية عند الطبقة المتوسطة السفلى؛ هو جزية تدفعها المادة للروح، أو ـ بين الشرائح الأعلى ـ يدفعها الفكر للعاطفة، فلا المثقفون ولا أدعياء التقوى لديهم حساسيةٌ أصيلة تجاه الانفعالات الهائلة للفن والدين، بل كلاهما يعرف ما يليق به أن يحس ومتى ينبغي عليه أن يحسه”.

12