بين "البوصاع" و"الإيكدنيا"

ثمة فواكه لا يطيب قطفها وتناولها إلا خلسة وفي غفلة من أعين أصحاب البستان، على غرار التوت والكرز، والعنب الذي يحرسه النواطير فنُسجت حوله الأساطير والحكايات، وغنت له فيروز.
أما أندر هذه الفواكه التي لا يستلذها المرء إلا مسروقة ومُستعجلة مثل قبلات العشاق، فهي ما نسميه في تونس بـ”البوصاع”، نظرا لأنها تأتي مجتمعة في أغصانها بحجم صاع بأكمله.
هذا في نطقنا المحلي بتونس، وفي مصر يسمونها “البشملة”، وكذلك “المشمش الهندي”، و”المزاح” أو “المشيمشة” بالدارجتين المغربية والجزائرية.
وإذا كانت هذه الفاكهة تسمى بالتركية المعروفة بمغازلة الأطعمة منذ مطابخ العثمانيين بـ”الإسكدنيا”، وتعني “دنيا جديدة”، فإن أهل الشام، ذوي المزاج الرومانسي في توصيف الأكلات، قد أضافوا إليها من خيالهم فأطلقوا عليها اسم “الإيكدنيا” أي “هكذا هي الدنيا”.
السبب الذي يكمن وراء هذه التسمية الغريبة هو كون هذه الفاكهة التي تتميز بطعمها الحلو ومنظرها البرتقالي الجميل تحل في الأسواق مثل المنام، فلا يكاد المرء يتفطن إليها وينتظر الفقير تدني سعرها حتى تختفي لتصبح أثرا بعد عين.
إنها مثل العمر فعلا: قبل نضوجها تتلون تدريجيا من الأخضر الغامق إلى الأصفر ثم البرتقالي، وهي تزهر في الخريف، وتثمر في الربيع.
أعجبتني شخصيا هذه المقاربة العبقرية المبتكرة، وإن كان فيها شيء من الحزن والشجن، إذ لا يقدّر الواحد طعم ولذة الحياة الدنيا إلا بعد زوالها.
هي أشبه بفيلم “سرقات صيفية” للمصري يسري نصرالله، نلتهمها على عجل أو فلتقل “حلم ليلة صيف”، الرواية الفانتازية لعبقري المسرح وليم شكسبير.
أما الأمر الأكثر إدهاشا فهو أن تناول بذور هذه الفاكهة ذات الطعم اللذيذ الآسر يؤدي إلى التسمم برأي العلماء والمتخصصين، لكن كثافة البذور وحدة المرارة كافية عادة لردع عشاق “الإيكدنيا” عن تناولها، وبالتالي التعرض للمخاطر التي تصل حد الموت.
كانت هذه جملة تداعيات لاعبت ذهني وأنا أستطعم هذه الفاكهة التي آليت على نفسي إلا أن أتذوقها قبل زوال موسمها ورغم غلاء سعرها.
تذكرت شقاوة الطفولة وسور منزل الجيران الذي كنت أتسلقه من أجل حفنة من “البوصاع”، وكذلك حب الطفولة الأول الذي مازال عالقا في ذاكرتي وطرف لساني.
انتبهت إلى الزبائن في السوق من أولئك الذين منعتهم جيوبهم من تذوق “الإيكدنيا”، وكيف أن الحياة صغيرة وسريعة وممتعة، وقد تكون سامة مثل حبة “إيكدنيا”.
أما متعة الاختلاس والسرقة من كروم العنب وبساتين التوت والكرز والإيكدنيا، فلا تضاهيها أي متعة.. ربما بسبب أن أسوارها عالية ومنيعة، وربما لأنها لذيذة في مواسمها المستعجلة.. وربما بسبب طفولة تُستعاد قهرا أو قصدا أو قسرا.