بيروت التي لا تشبهها إلا سايغون

إذا كنت مولودًا بعد عام 1976، فأنت غالبًا لم تسمع بـ”سايغون”، التي بُدِّل اسمها في ذلك العام ليصبح “هو تشي منه”، تكريمًا للزعيم الفيتنامي الذي قاد حركة الاستقلال الفيتنامية ومؤسس جمهورية فيتنام الديمقراطية (فيتنام الشمالية)، ولعب دورًا حاسمًا في النضال ضد الاستعمار الفرنسي ومن ثم ضد القوات الأميركية وحلفائها في فيتنام الجنوبية.
بعد سقوط سايغون في 30 أبريل 1975، تم دمج المدينة مع منطقة “جيا دينه” المجاورة، وأعيدت تسميتها تكريمًا لهو تشي منه الذي توفي عام 1969 دون أن يشهد توحيد البلاد.
بيروت لم يُغيَّر اسمها، لكنها تشترك مع سايغون في عوامل أخرى؛ المدينتان كانتا مسرحًا لحروب اشتركت فيها قوى دولية لفترة طويلة. فيتنام احتُلت من قبل الفرنسيين عام 1859 وتعاقبت عليها حروب كثيرة، آخرها يُعتبر أطول الحروب في القرن العشرين؛ حيث امتدت من عام 1955 إلى عام 1975.
الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في العام نفسه الذي توقفت فيه الحرب في فيتنام استمرت 15 عامًا وانتهت عام 1990، لكن الصراع لم ينتهِ بعد.
الحروب ليست الشبه الوحيد بين سايغون، وتعني “غابة القطن”، وبين بيروت، وتعني “بئر الماء”. المدينتان كانتا مركزًا للثقافة والفن رغم ما شهدتاه من صراعات.
كلتا المدينتين تتميزان بتنوع ثقافي كبير. سايغون تضم مزيجًا من الثقافات الفيتنامية والفرنسية والأميركية، بينما بيروت معروفة بتنوعها الديني والثقافي، وتضم طوائف متعددة وتاريخًا غنيًا بالتأثيرات الفينيقية والرومانية والعربية.
المدينتان معروفتان بحياتهما الليلية والمشهد الفني المزدهر. سايغون تشتهر بالنوادي الليلية والمقاهي والعروض الموسيقية، بينما بيروت معروفة بمسارحها ومعارضها الفنية والمهرجانات الثقافية. هذه الفعاليات جذبت إليها فنانين ومثقفين من مختلف أنحاء العالم، ما جعل منها مركزًا للتبادل الثقافي والفني.
بفضل موقعها الجغرافي وتاريخها شكلت بيروت نقطة التقاء بين الشرق والغرب. التأثير الغربي ساهم في تنوع الحياة الثقافية والفنية في المدينة، وهو ما جعلها مكانًا فريدًا يجمع بين التقاليد العربية والحداثة الغربية.
ولن ننسى أن بيروت كانت مركزًا للصحافة العربية، ولعبت دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام ونشر الثقافة والفكر في العالم العربي.
كثيرة هي الكتب والمجلات الأدبية والفكرية التي تم نشرها في بيروت، والتي لعبت دورًا لا ينكره إلا الجاحد في نشر الأفكار والثقافات المختلفة عبر المنطقة.
رغم الحرب ظلت بيروت ملاذًا للمثقفين والفنانين العرب الذين كانوا يبحثون فيها عن حرية التعبير بعيدًا عن القمع السياسي في بلدانهم، وهو ما جعل منها مركزًا للنشر والإبداع الأدبي والفني.
تعاقب الصراعات على البلد لم يوقف النشاط الفني والثقافي في بيروت، ورغم الحرب الدائرة اليوم تعود الموسيقى لتصدح في أجواء العاصمة اللبنانية ضمن مهرجان “بيروت ترنّم” الذي من المقرر أن يُفتتح الشهر المقبل؛ في حفلات تقام عادة وسط كنائس العاصمة، لكنّ المنظّمين حرصوا هذه السنة على توسيع النطاق الجغرافي للحدث ليمتد إلى كنائس خارج العاصمة، وببرنامج “يركّز على السلام” في ظل استمرار الحرب، بعنوان “لا صوت يعلو فوق صوت الموسيقى”.
رغم التحديات، لا تزال بيروت تحتفظ بمكانتها عاصمة ثقافية وفنية للمنطقة، وتتشبث لتبقى سايغون الشرق الأوسط.