بيرسا كوموتسي: الشعر العميق مهما تعددت لغاته يبقى لغة عالمية واحدة

لا يُكتب الشعر العربي بمعزل عن محيطه وعن التوجهات الكونية في الفكر والأسلوب، وخاصة في التشابك الثقافي والتاريخي الذي يعيه قلة من الشعراء المعاصرين اليوم أمثال الشاعر السوري نوري الجراح، الذي جعل من نصه منطقة لتلاقي ملاحم الماضي بمآسي الحاضر، ومجالا يثبت عمق العلاقات الإنسانية منذ قرون بين سكان المتوسط وحكاياتهم وأساطيرهم، خالقا من لغته لغة كونية تفطنت لها الروائية والمترجمة اليونانية بيرسا كوموتسي لتقدم قصائده باليونانية. “العرب” كان لها معها هذا الحوار حول اختياراتها لترجمة الجراح وكتابها الأخير المترجم له.
تعتبر بيرسا كوموتسي من ألمع الأسماء الأدبية في اليونان، روائية ومترجمة، والفريد في تكوينها أنها تنتمي إلى ثقافتين عريقتين، اليونانية والعربية، فهي مولودة في مصر حيث نشأت، فهي تتحدر من عائلة يونانية كانت تقطن مصر.
صدرت لها سبعة أعمال روائية، وجميعها تدور أحداثها في مصر، من أبرز ما نُقل منها إلى العربية “الضفّة الغربية من النيل” بترجمة محمد حمدي إبراهيم، و”في شوارع القاهرة، نزهة مع نجيب محفوظ” بترجمة خالد رؤوف الذي ترجم لها أيضا روايتها “أصوات سكندرية”. وفي رصيدها إلى جانب أعمالها الأدبية ترجمة لخمس عشرة رواية لنجيب محفوظ، وكتابان أنطولوجيان للشعر العربي المعاصر.
أحدث ما صدر لها من الترجمات إلى اليونانية ديوان “لا حرب في طروادة” للشاعر نوري الجراح، الذي وقعت نسخه الأولى في معرض الكتاب في أثينا الأسبوع الماضي، وبهذه المناسبة كان لـ”العرب” جولة حوارية معها.
جسر للزمن والتاريخ
قصائد الجراح رغم احتفاظها بهويتها العربية إلا أنها في الوقت نفسه تتناغم مع الهوية اليونانية والهوية المتوسطية
العرب: بمناسبة صدور الترجمة اليونانية لـ”لا حرب في طروادة” وهو الديوان الثاني الذي تترجمينه للشاعر نوري الجراح بعد “قارب إلى ليسبوس”، الذي صدرت ترجمته قبل بضع سنوات، ما الذي جذبك إلى شعر الجراح، وما الذي يمتعك في لغته الشعرية وموضوعات شعره انطلاقا أولاً من كونك أديبة يونانية قبل أن تكوني مترجمة؟ وما الفرق بين قصائد الكتابين؟
بيرسا كوموتسي: الواقع أنني بدأت مترجمة للأدب العربي قبل أن أكتب كتبي الخاصة. ولعل أدب العرب علمني الكثير ودفعني إلى كتابة كتبي الخاصة، ومن ثم تناول الشعر الذي أحبه بشكل خاص.
جاءت كتب نوري الجراح بعد مجموعتين لمختارات من الشعر العربي المعاصر قمت بجمعهما وترجمتهما في اليونان. ولم يكن اليونانيون يعرفون الكثير عن الشعر العربي حتى ذلك الحين، ربما باستثناء محمود درويش.
من خلال المختارات المذكورة التقوا بالعديد من الشعراء المعاصرين من العالم العربي وتعرفوا على القضايا التي تهمهم. وكانت الاستجابة رائعة. بعد ذلك تواصلت مع العديد من شعراء الوطن العربي الذين لم يكن يعرفهم الجمهور اليوناني، ثم حدث أن أفردت عددا من الشعراء الذين أعتبرهم ممتازين. وكان أحدهم نوري، أو على وجه الدقة، شعره. فبدأت بترجمة كتابه الشعري الأول “قارب إلى ليسبوس” الذي جسدت قصائده الملحمية التراجيديا السورية المعاصرة. لقد تأثرت بالأسلوب، واللغة، والتعددية الثقافية التي حملتها قصائده، لا سيما أن شعره كان يروي ويصور قضية حساسة للغاية عاشها اليونانيون بشكل مباشر مع وصول الآلاف من اللاجئين السوريين إلى ديارهم والظروف الصعبة التي أخذوا يعيشونها.
لقد أصبح اليونانيون متلقين مباشرين للأحداث المأساوية في بحر إيجه، فمست هذه القصائد أوتارهم الحساسة، لاسيما أن الكثيرين منهم تحدروا من لاجئي سميرنا الذين عاشوا أحداثًا مماثلة. أي أنه حدث تماه في المعاناة المهولة مع شعب سوريا بفضل قصائده ولغته الشعرية الحساسة وأسلوبه ورمزيته.
شعر نوري عالمي إنساني النزعة بمعنى أنه يتعامل مع قضايا إنسانية عالمية ذات بعد كوني مثل الحرب والخيانة وتمجيد الحب والخوف والموت وغيرها الكثير. بل يتطرق إلى الكثير من نقاط الضعف البشرية التي حكمت سلوك الإنسان على مر العصور وكثيرا ما قادته إلى الدمار وإلى النصر أيضا، وهذه هي القضايا التي تهمنا جميعا في كل ركن من أركان العالم.
بالطبع هناك اختلافات بين ديوانيه الشعريين، لكن محور كليهما هو الإنسان بما يحدده ويميزه في مسار حياته.
“لا حرب في طروادة” هو بالتأكيد أقرب إلى معرفة القارئ اليوناني وتجاربه، فديوان نوري الجراح الشعري هذا نوع نادر من الشعر العربي المعاصر، والذي على الرغم من طبيعته الرثائية، فإن الارتباطات التي يخلقها في ما يتعلق بالحروب والعواطف الإنسانية عبر الزمن، يجعل منه ترنيمة لاثنتين من أهم ثقافات البحر الأبيض المتوسط التي تفاعلت وتواصلت ثقافيًا على مدار قرون كثيرة. إنه شعر يبني جسرا للزمن والتاريخ، يعج بالرمزية الخالدة التي تبدأ وتنتهي في التاريخ الإنساني.
وقصائده، على الرغم من احتفاظها بهويتها العربية، إلا أنها في الوقت نفسه تتناغم مع الهوية اليونانية ومعها الهوية المتوسطية. وهكذا يصبح القارئ في مجموعة واحدة متلقيًا لثقافة متعددة الأوجه والمعاني الظاهر منهم والباطن.
الشعر لغة كونية
شعر نوري الجراح إنساني النزعة بمعنى أنه يتعامل مع قضايا إنسانية عالمية ذات بعد كوني مفتوح
العرب: من بين الشعراء العرب ينفرد نوري الجراح بمشروع شعري يستلهم ملاحم وأساطير وتواريخ البحر المتوسط، إلى جانب كونه شعرا يمتاز بلغة ملحمية حديثة، ذات نزوع إنساني كوني، أين يتقاطع شعره في نظرك مع شعر الشعراء اليونانيين الحديثين من أمثال سيفيريس وريتسوس وإيليتس؟
بيرسا كوموتسي: أعتقد أن الشعر العميق مهما تعددت لغاته يبقى بطبيعته لغة عالمية. لغة واحدة ولا يجوز فصلها. وبهذا المعنى يمكن مقارنة شعر نوري بشعر شعرائنا الكبار، إذا ما نظرنا إليه، من منظور متحرر من شوفينية المكان أو اللغة.
نوري الجراح، عاشق للأدب اليوناني القديم والتقليد الشعري اليوناني القديم، فبالإضافة إلى إضفاء المثالية على التقليد الملحمي وأبطال هوميروس عبر جميع قصائد “لا حرب في طروادة”، نراه يكتب بإعجاب ويشيد بأبطال ملحمة طروادة، ويمكنني أن أضيف أيضا أن الشعراء اليونانيين الذين ذكرتهم أدخلوا التاريخ في شعرهم.
ولكن من وجهة نظرهم الخاصة، فهم يحملون عبء التقليد الشعري اليوناني ووجهة النظر اليونانية الخاصة، لكن امتياز شعر نوري الجراح أنه يحمل تقاليد ثقافتين، مما يجعله فريداً من نوعه، النجاح، في نظري، يأتي على وجه التحديد من كونه يقول نفس الأشياء من منظور جديد، منظور جديد جدًا بالنسبة إلينا نحن اليونانيين.
الروابط، وأوجه التشابه، والمراسلات الممتازة (غالبًا ما تكون متناقضة أيضًا) تولد بسهولة من خلال أبياته الشعرية وبشكل عضوي، ومن خلال هذه “الشراكة” تضفي طابعا فريدا على لغة المجموعة وأسلوبها وخصوصية موضوعها الذي يستحق الدراسة. وليس من قبيل المصادفة أن نوري الجراح يُطلق عليه لقب شاعر البحر الأبيض المتوسط الذي يكتب باللغة العربية، إذ يعتبر البحر الأبيض المتوسط بالنسبة إليه مجالا نادرا للإلهام والإبداع.
تجربة فريدة
العرب: إذا كان الشعراء هم أول من يتلقف الشعر ويتذوقه، هل يمكننا أن نعرف كيف تلقت الشاعرات والشعراء في اليونان شعر نوري الجراح ما دمت تعتبرين أن عمله الشعري على الأساطير اليونانية ينطلق عمليا من زاوية نظر مختلفة ومن معالجة جديدة؟
بيرسا كوموتسي: بالنسبة إلى الديوان الجديد هو صدر للتو، ومازال باكراً أن نعرف مدى جاذبيته للشعراء اليونانيين المعاصرين، لكنني على قناعة بأن الكثيرين سيكونون مهتمين بالتعرف على شعره، علما أن من واجبي هنا أن أضيف أن هناك أحيانا تلك الشوفينية الوطنية التي قد تمنع البعض من رؤية هذا الشعر بمنظور أوسع خاليا من أي تحيز، كما ذكرت أعلاه.
لكن إذا حكمت استنادا إلى الكيفية التي تلقى الشعراء وذواقة الشعر شعره في كتابه الأول “قارب إلى ليسبوس” فأنا متفائلة جداً بنجاح “لا حرب في طروادة”.
بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، أعتقد أنني تعرضت له في الإجابة عن السؤال السابق. وفي الخلاصة أقول إن الهوية الثقافية المزدوجة لقصائد “لا حرب في طروادة”، أوجه التشابه والإشارات إلى المشكلة السورية من خلال موضوع يوناني مميز للغاية، تجعل هذا العمل الشعري فريدًا من نوعه.
شيء أخير أود إضافته: إن قوة الإقناع الشعري في وصف معاناة أوديسيوس وبينيلوب وتيليماكوس وأخيل تبدو ذات بلاغة استثنائية. أوصاف المعاناة للأبطال هؤلاء مفصلة للغاية بحيث لا يمكن إلا لشاعر يوناني أن يقدمها بهذه الطريقة. لكن نوري الجراح يفعل ويتفوق.
****
اختيار من الترجمة
وصول البرابرة
إلى طرواديي العصر
عندما وصل البرابرة إلى أَسوارِ المدينةِ
كانتِ الأبوابُ مُشرعةً
والسكونُ يَغمر المطالعَ والشّرفاتِ، ويهيمُ في الأَزقةِ
كان النهارُ في أَولِ شبابهِ والشمسُ بلسانها الدافئ تَلحس الجدرانَ..
الخواءُ رَجَّعَ أَصداءَ سنابكِ الخَيل..
لم يكنْ في السَّاحةِ المسكونةِ بالهجرانِ حصانٌ ولا عَربةٌ
لم يكنْ وراءَ الأَسوارِ قائدٌ، ولا فتاةٌ شجاعةٌ تُلهِمُ المدافعينَ،
لم يكنْ حارسٌ هناكَ ولا حتى نافخ بوقْ.
النسائمُ تلهو بأَطرافِ الستائرِ
وفي آخر الزقاقِ صبيٌّ صغيرٌ يلهو بعجلةٍ.
الخيلُ راحتْ تَمشي بخيلاءَ، مباهيةً بأَعرافها، وبوقعِ سنابكها على الصمتِ.
***
عندما وصلَ البرابرةُ في ذلكَ اليوم
كان بابُ المدينةِ مفتوحاً والصائفةُ تلهو بأوراقِ الشَّجر.
شعرَ قائدهُمُ بالخِزي لأَن الأبوابَ كل الأبوابِ، كانت مفتوحةً،
لم تَنفلق جمجمةٌ بسهمٍ، ولم يسقط فارسٌ عن فرسٍ!
وبخِزي أكبرَ شعرَ قائدهم لأن رجالَه لم يرسلوا إلى الحصونِ والأَسوارِ كراتِ النارِ
ولم تكنْ لديهمُ فرصة ليهدموا قلعةً ويقيموا في محيطِها برجاً من الجماجمِ..
والمؤسفُ أكثرَ أنهم بلغوا بطلائعهم قلبَ المدينةِ، ولم ترتفع ملاءةٌ بيضاءُ على حانوتٍ أو بيتٍ،
لم يركعْ جريحٌ،
ولم تهتف امرأةٌ: احرقوا المدينةَ، ولا تدنسوا العذراواتِ،
لا شَكوى
لا بُكاءَ
لا تَوسلات!
فقط، صمتٌ مريبٌ لا يشبهه شيئا سوى زيارة مقبرةٍ في جبلٍ.
والسؤالُ الآنَ:
ماذا يفعل بمدينةٍ تُرِكَتْ مشرعةَ الأَبوابِ ولا يُوجدُ فيها سوى صَبيٍّ يلهو بعجلةٍ؟
***
لم يجد البرابرة خائناً، ولا حتى مهرجاً أو أحمق، ليكون دليلاً في المدينة.
إحباطٌ كاملٌ..
إذْ ذاكَ نظرَ البرابرة في وجوه بعضهم البعض، ولم يجدوا كلمةً تُقال.
ماذا يفعلُ في مدينة اختفى سُكانها، فجأة، بصورةٍ غير مفهومةٍ!
الخيولُ التي مَلأت الساحاتِ بالعجاجِ، ضجرة راحت تنبش بسنابكها الأرضَ..
وعلى صهواتها القلقةِ، فجأةً، دَبَّ صَمتٌ يُشبهُ رعدةً باردةً سَرَتْ في أجسادِ.
لم تنبسْ لهُمُ شفاهٌ بحرفٍ، عيونهُمُ صارتْ خَرزاً ملوناً،
ونظراتهُم أُحجياتٍ حَجَريَّة.
***
في آخر الزقاق، ومن الأعلى أَفْلَتَ الصَّبيُّ العجلةَ
وتَرَكَها تتدحرجُ..
جهةَ
الخيلِ
إذ ذاكَ نَفَخَ حاملُ البوقِ: نحنُ البرابرة لمْ نَعد برابرةً!
كانت الأبوابُ المقفلةُ ومن ورائها المدافعونَ عن الأسوارِ، والفتاةُ الشجاعةُ التي تُلهم المدافعينَ،
السهامُ، والحرابُ، وصليل السيوفِ،
الجماجمُ في الأزقةِ، والنيرانُ في العَمَائرِ..
هي الحكايةُ والمغزى.
صَهَلَتِ الخيلُ في قصيدةِ الشاعرِ، ومَشَتْ بخيلاءٍ.
حقاً، لقد كانَ البرابرة المحبطون لكونهم لم يصبحوا برابرةً في ذلكَ اليوم،
حَدَثاً رائعاً، خلفيَّةً مناسبةً للهو صبيٍّ بعجلةٍ في قَصيدةْ.
*-*-*-*-
كلماتُ هوميروس الأَخيرة
I
لا حَرْبَ في طُروادهْ
لا بَحْرَ ولا مَراكبَ ولا سلالمَ على الأَسوار،
لا حصانَ خَشَبياً، ولا جُنُوداً يختبئونَ في خَشَبِ الحِصان
سأَعتذرُ لكم يا أبطاليَ الصَّرْعى؛
آخيلُ بكعبهِ المُجَنَّحِ
هِكتور بصدرهِ الطُروادي العَريض
وأنتَ يا أَغاممنون بلحيتكَ البَيضاء
وسيفكَ المُسَلَّطِ على رقابِ البَحَّارةِ الهاربينَ مِنَ المَعركة.
II
لا حَرْبَ في طُروادهْ
لا دَمَ ولا دُموعَ
لا أَقْواسَ نَصْرٍ ولا أَطواقَ غَارٍ في الرُؤُوس.
لا جُرُوحَ في جثامينِ الرجال
لا قَتلى
ولا قُبور
لا آسَ على الأَسْماءِ ولا باكياتٍ في شُرُفاتِ البُكاء.
III
لا حَرْبَ في طُروادهْ
المُراهِقُ لَمْ يَقْطُفْ تُفْاحَةً لامْرأَةٍ في شُرفَة
ولَمْ يَكُنْ في المدينةِ زوجٌ اسْمُهُ مينلاوس
هِيلن وحدَها، كانتْ تتشمَّسُ في حديقةِ هوميروس
ولأَجْلِ وشاحِها القُرمُزيّ وخَدِّها الأَسيلِ
أَسْلَمَ خَيالَه للرِّيحِ
وأصَابِعَهُ للأَوتارْ.
IV
لا حَرْبَ في طُروادهْ
لا مَراكِبَ على السَّواحلِ، ولا جُنودَ في المَراكِبِ
القَمَرُ يَلهو في الحُقولِ، والشَّجَرَةُ تُؤْنِسُ الحِصان.
لا حَرْبَ
في
طُروادهْ
المُنْشِدُ أَسْلَمَ قيثارَتَهُ للرِّيحِ
واسْتَرَدَ أصَابِعَهُ مِنَ الأَوْتارِ
عُودوا إلى بُيوتِكُمُ
عانقوا الزَوْجَاتِ الصَّغِيراتِ وقَبِّلوا الأَطْفالَ
وتلهَّوا بخَمْرَةِ العِيد.
لا حَرْبَ في طُروادهْ.