بيت السينما ناد سينمائي سوري يصارع للتواجد في عصر هيمنة الافتراضي

لم ينته عصر أندية السينما رغم تراجع أهمية وجودها في الحياة السينمائية العربية، نظرا إلى طبيعة الحياة والتقدم التقني الهائل اللذين يعرفهما العالم اليوم، وتحوّل صيغ العرض السينمائي لتكون عبر منصات البث التدفقي وليتم التواصل عبر مواقع وتطبيقات. ولكن طيفا من الشغوفين بالسينما، وبإضافة شكل معرفي عليها، ما زالوا يقاومون ويواصلون العمل على ابتداع أنماط وأشكال جديدة تستفيد من لغة العصر وثورة التكنولوجيا.
بيت السينما هو ناد سينمائي تنظمه المؤسسة العامة للسينما بدمشق في صالة كندي دمشق، ليقدم عروضا لأفلام هامة مثل "ستموت في العشرين" من السودان ومن ثمة الفيلم البريطاني "بلفاست" وثالث العروض كان فيلم "البطل" من إيران، وكلها حققت حضورا عالميا هاما على منصات التتويج، ولكن الوضع الصحي بسبب تفشي فايروس كورونا المستجد تسبب في إغلاق النادي، ليعود أخيرا في رابع عروضه في انطلاقته الثانية، إذ قدم فيلمين قصيرين هما "اللقطة الأخيرة" إنتاج المؤسسة وإخراج القاسم أحمد، وفيلم "الناس يلي فوق" إنتاج مختبر سينمائي أهلي بدمشق وإخراج فراس محمد.
وعرض الفيلمين ضمن نشاطات بيت السينما يطرح مجددا مسألة وجود الأندية السينمائية وضرورتها في عرض الأفلام، خاصة القصيرة، ومن ثمة إجراء النقاشات حولها. فالأندية السينمائية غابت بشكلها الفعال عن الحياة السينمائية في سوريا منذ نهاية فترة الثمانينات عندما جمدت نشاطات النادي السينمائي، واقتصر الأمر على نشاطات بعض الأندية النقابية والمهنية والأهلية التي لم تحقق ما وصل إليه النادي السينمائي من حضور قوي، وحده النادي السينمائي الطلابي بجامعة دمشق حقق حضورا خاصا في مرحلة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينات بإشراف حسين الإبراهيم ثم تعثر ظهوره وغابت نشاطاته الفاعلة والمستقرة.
حنين أم ضرورة

كثيرا ما عبر الشباب السينمائي في سوريا عن رغبتهم في تكوين ناد سينمائي يضم نشاطاتهم بعرض الأفلام ومناقشتها، مستفيدين مما قدمه النادي السينمائي في سوريا سابقا من جهد خلاق في تكوين حالة سينمائية هامة، جمعت وأنتجت فكرا سينمائيا راسخا وكرست أسماء إبداعية هامة في تاريخ السينما السورية.
ويعتبر بيت السينما إحدى أهم الفعاليات السينمائية التي حققت هذا الحضور حديثا، إذ انطلق المشروع منذ عام 2020 بإشراف السينمائي الشاب فراس محمد خريج دبلوم العلوم السينمائية وفنونها في مؤسسة السينما، وقدم أكثر من عشرين فيلما حركت الجمود في حركة الأندية السينمائية، ثم جاءت جائحة كورونا لتعطل مسيرته ويغيب، حتى عاد وانطلق مجددا في أواسط شهر مايو من العام الجاري تحت إشراف فراس محمد والشاب رامي نضال الذي درس السينما في مصر.
يبدو شغف الثنائي محمد ونضال بالمشروع والدعم الذي تقدمه المؤسسة العامة للسينما من خلال حضانة المشروع وتجاوب الناس المتزايد معه مؤشرا على تأسيس ناد سينمائي سيحقق قيمة مضافة. وبينما البعض من متابعي الفن السينمائي ينظرون إلى بيت السينما على أنه حنين إلى مرحلة النادي السينمائي الشهير ورغبة في تقليد التجربة، فإن آخرين وجدوا فيه حراكا شابا لا بد من تنظيمه ونافذة يطلعون من خلالها على سينما مختلفة ومميزة.
عن أهمية وجود بيت السينما يقول فراس محمد أحد المشرفين عليه لـ"العرب": “بيت السينما يقدم عروضا سينمائية خاصة من مشاهير الأفلام في العالم، ثم يقيم حولها جلسات نقاش، وهي مسألة هامة وحيوية وتقدم فائدة كبرى، اعتمدنا أفكارا جديدة في برمجة العروض، تقضي بتقديم أفلام قصيرة بعد ثلاثة عروض لأفلام طويلة، واليوم نقدم أولى هذه العروض بتقديم فيلمين قصيرين هما ‘اللقطة الأخيرة‘ و‘الناس يلي فوق‘ وسوف نقدم لاحقا العديد من الأفلام السورية القصيرة”.
وعن تفاعل الناس مع بيت السينما وتحقيقه للفائدة المرجوة يرى محمد أن "الجمهور بحاجة إلى فعالية سينمائية كهذه، هنالك شباب موهوبون في السينما ويريدون معرفة المزيد عنها والنقاشات التي تتم بعد عرض الأفلام تقدم فائدة معرفية كبيرة لهم".
رامي نضال بدوره يؤكد لـ"العرب" على أن "بيت السينما حدث سينمائي، حرك الجمود في الوسط السينمائي، والتفاعل معه يزداد يوما بعد آخر، من خلاله يشاهد الجمهور بعض الأفلام التي لا يمكن أن تقدم في صالات السينما ولا حتى مواقع الإنترنت، فهو يراها هنا وبشرط عرض احترافي ويتعرف من خلال النقاش الذي يدور حولها على منتجيها وخلفياتهم الفكرية والمهنية. بيت السينما مشروع يعني كل شغوف بالسينما وهو أكثر من عرض سينمائي فقط وسوف نقدم لاحقا أفلاما عالمية هامة كان لها نصيب من النجاح العالمي".
لماذا النادي السينمائي؟
كانت طبيعة الحياة السينمائية تفرض وجود هيكلية عرض محددة، فالأفلام التي تعرض في صالات السينما هي من قياس 16 أو 35 مم توضع على بكرات معدنية ثقلية الحجم وكبيرة، وتستلزم وجود آلات عرض كبيرة وثقيلة، ولم تكن صالات السينما موجودة بكثرة في كل المدن العربية، وفي ظل توجه معظم هذه الصالات لعرض أفلام من السوق التجارية العربية والعالمية فإنها لم تخرج عن تقديم الأفلام الأميركية والمصرية.
لذلك وجد المهتمون في السينما العربية نافذة الأندية السينمائية ملاذا لهم للخروج من هذه النمطية، فقدمت الأندية روائع سينمائية عالمية من أوروبا (الواقعية الإيطالية والموجة الفرنسية الجديدة) وكذلك سينما أفريقية وسوفياتية ويابانية ومن أميركا اللاتينية. كما حرصت هذه الأندية على تقديم السينما الوثائقية التي كانت تتجاهلها تماما معظم دور العرض العربية.
وما كان يزيد من اهتمام الجمهور بالأندية السينمائية هو حلقات النقاش التي كانت تجري بعد عرض الأفلام بين الجمهور وبعض السينمائيين من كتاب ومخرجين وفنانين، وصارت للأندية السينمائية نشاطات محلية وامتدت إلى الحيز العالمي، فقد تشكل اتحاد دولي لأندية السينما، وصارت تقدم برامج وفق ثيمات محددة بالتنسيق فيما بينها، وتبادلت الأفلام والمشاركات وحققت صيغة مختلفة لمفهوم المهرجانات السينمائية، والبعض منها أصدر نشرات سينمائية، ترصد نشاطاته وتقدم تحليلا لما يقوم به من أعمال.
مسيرة متعثرة

في خمسينات القرن العشرين تأسس النادي السينمائي السوري، وكان تجمعا أهليا، اهتم بالشأن السينمائي وقدم مساهمات كبيرة لدعم السينما. وهو سابق للحراك الرسمي الحكومي في تنظيم الحياة السينمائية السورية.
في عام 1963 وجدت المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة ولم تكن العلاقة بين مؤسسة السينما الحكومية ونادي السينما الأهلي مستقرة دائما، فقد عانت من تذبذبات تحكمها على الغالب نوازع شخصية وأحيانا حزبية، علما أن كل ناشطي النادي وفريقه كانوا يساريي التوجه ماركسيين وبعثيين غالبا وقليل من المستقلين.
في أوائل سبعينات القرن العشرين عادت إلى البلاد مجموعة من المخرجين السينمائيين الذين درسوا في الدول الشرقية وتحديدا الاتحاد السوفييتي. واندمجوا في نشاطات النادي السينمائي الذي كان يقدم عروضه في صالة كندي دمشق التابعة للحكومة، ثم انتقلت إلى منطقة الطلياني. فنشط في هذه المرحلة هيثم حقي ونبيل المالح وقيس الزبيدي وعمر أميرالاي ومحمد ملص ومروان حداد ومن ثمة نبيل الدبس وشقيقه نضال وكثير من السينمائيين الذين صاروا أسماء لامعة لاحقا.
كان النادي تابعا تنظيميا لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وليس لوزارة الثقافة وحاضنه الرسمي منتدى اجتماعي، وهذا ما أكسبه بعض المرونة والحماية من تأثيرات بعض القوى الثقافية الفاعلة التي كانت تعارض نشاطه في السر والعلن، إلى أن تمكن هؤلاء في عام 1988 من إيقاف عمل النادي السينمائي بشكل فعلي وليس رسميا بداعي وجود خط حزبي معين في إدارته.
وبعد ما يزيد عن العشر سنوات حاول عمر أميرلاي أن يعود بالنادي إلى النشاط ضمن فعاليات المركز الثقافي الفرنسي لكن بدء الأحداث في سوريا ثم رحيله عام 2011 عطل إتمام المشروع مجددا. وبغياب النادي السينمائي فقدت سوريا كما في مصر أهم ناد سينمائي فيها.
أندية سينمائية عربية
ظهرت أول محاولة لتأسيس ناد سينمائي في العالم في النصف الأول من عام 1908 في باريس على يدي إدموند بينوا ليفي الذي أوجد ناديا سينمائيا سماه نادي الفيلم والذي تضمن وجود أرشيف يخص الحياة السينمائية في فرنسا وصالة عرض. وما لبثت أن راجت فكرة النادي السينمائي في العديد من الدول الأوروبية.
ولكن أجواء التوتر السياسي التي كانت موجودة حينها وقيام الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) والثانية (1939 - 1945) عطلا توسع انتشار النوادي السينمائية في أوروبا. الأمر الذي انقلب إلى النقيض بعد الحرب العالمية الثانية فوجدت العديد من المحاولات التي أسست أندية سينمائية مختلفة الذهنيات والتوجهات.
◙ ما يزيد من اهتمام الجمهور بالأندية السينمائية هو حلقات النقاش بعد عرض الأفلام بين السينمائيين والحضور
المنطقة العربية لم تتأخر عن ولوج عصر الأندية السينمائية. فوجدت في مصر والعراق والشام ودول المغرب العربي وكذلك في دول الخليج. ففي مصر تؤكد المراجع أن أول تشكيل فعلي لناد سينمائي كان عام 1945 من خلال نادي الفيلم الذي أسسه فريد المزاوي في المركز الكاثوليكي للسينما، ثم كانت ندوة الفيلم المختار التي أوجدها الكاتب يحي حقي بصفته رئيس مصلحة الفنون حينها، ثم ظهر بشكله الأكمل عام 1968 باسم نادي السينما الذي انتهى نشاطه رسميا عام 1993. وفي تونس تشكلت الجامعة التونسية لنوادي السينما عام 1949 وحصلت على إشهار رسمي لها عام 1965.
وتأسس ناد سينمائي في دمشق على يدي نجيب حداد في أواسط الخمسينات وكان له دور كبير في التأسيس لحياة سينمائية فاعلة في سوريا، وبعد الحرب الأهلية في لبنان وجدت العديد من المحاولات لإيجاد نواد للسينما، منها نادي بيروت في سينما كليمنصو. وتشهد الحياة السينمائية في العراق والمغرب ودول الخليج العربي وجود حراك نشط في صيغة الأندية السينمائية التي تقاوم واقع التقانة وسطوته.