بيتهوفن في دمشق..الموسيقى تقاوم الحرب

دمشق – يحتفل العالم هذا العام بذكرى مرور مئتين وخمسين عاما على ولادة الموسيقار العالمي لودفيغ فان بيتهوفن (1770-1827)، حيث تحتفي كبريات الفرق السيمفونية عبر العالم بهذا الحدث الذي يستمرّ على امتداد السنة الحالية.
ومن بين هذه الفرق تحضر الفرقة السيمفونية الوطنية السورية التي احتفت بدورها ببيتهوفن على طريقة قائدها المايسترو ميساك باغبودريان، وذلك عبر حفلة موسيقية أحيتها الفرقة مؤخرا بدار أوبرا دمشق، والتي نفدت تذاكرها خلال ساعات قليلة من الإعلان عن الحفلة.
مؤشر حمل الكثير من السعادة للقائمين على العمل، على رأسهم قائد الفرقة ميساك باغبودريان الذي قال لـ”العرب”، “وصلنا لهذه النتيجة بعد تعب وجهد كبيرين، وعلى امتداد سنوات استطعنا أن نبني علاقة من الثقة بيننا وبين الجمهور، الذي يشعر في كل مرة أنّ هناك عرضا صادقا ومُتقنا يقدّم له، وهو يقدّر هذا جيدا، فالإتقان والصدق هما جسر التواصل بيننا وبين الجمهور”.
وعن الحفلة ودواعي الاحتفاء ببيتهوفن سألت “العرب” الموسيقار السوري، فقال “للإجابة عن هذا السؤال يجب الإحاطة به من جانبين. أحدهما شخصي والآخر مهني. ففي تاريخ الموسيقى هناك الكثير من الموسيقيين الذين كانت أخبارهم ذائعة بسبب موسيقاهم أو بسبب علاقتهم مع المجتمع والحالة الإنسانية عامة. وهذا ما يشمل بيتهوفن تحديدا، فهو شخص صنع جدلا كبيرا في حياته، تعرّض لمأساة كبيرة وهي التي أدّت لعبقريته لاحقا”.
ويسترسل “لا نستطيع أن نتعرّف على أعمال بيتهوفن دون معرفة تفاصيل حياته وشخصيته، وكيف أدّت لمنتج موسيقي يتجاوز حدود ألمانيا. السيمفونية الخامسة له هي المؤشر الأكبر على ذلك فكل العالم صار يعرف بأن هذه الموسيقى له. من خلال الفكرة الهائلة التي انطلق منها. إضافة إلى ذلك كان لدى بيتهوفن علاقة جدلية إنسانية وأخلاقية مع الحالة الإنسانية والفكرية في عصره. فتأثر بغوته وشيلر”.
ويؤكد الموسيقار السوري أن بيتهوفن تحدث في موسيقاه عن “أخيه الإنسان”، وهي الحالة الإنسانية التي يجب أن يعيشها البشر جميعا بغض النظر عن الجنسية والدين واللون.
ويوضّح “هو كسر بموسيقاه القواعد الموسيقية وطوّعها لأفكار أكبر من حجم الموسيقى، لأنها إنسانية ضد التقاليد الموروثة في ألمانيا وغيرها. مثالا على ذلك، كانت تجربته في السيمفونية الأولى التي هي على سلّم دور ماجور. وحسب القواعد فإنه يجب أن يبدأ بهذه النغمة، لكنه بدأ بغيرها. ففي كل عمل موسيقي له يقوم بكسر التقاليد”.
ومعروف أن بيتهوفن صار أصمّ وألّف أعظم أعماله وهو كذلك. هو خارج الطبيعة والمفاهيم المُتعارف عليها. أعماله مؤثرة في كل الناس وتجعله محبوبا. ويسترسل ميساك باغبودريان “هذا مهنيا، أمّا شخصيا فإن أوّل عمل سمعته منذ كنتُ طفلا، كان له عندما أهدتني خالتي شريط كاسيت عليه أعماله وظلت الأعمال في ذاكرتي. أثّر فيّ كطفل والآن كموسيقي. موسيقاه صارمة وعميقة، لكنها تحمل نظرة حداثة للعصر الذي عاش فيه”.
وعن السبب الذي جعله كقائد للفرقة السيمفونية السورية ينفّذ هكذا حفل، يضيف “من الناحية الموسيقية يجب أن نكون محتفلين ببيتهوفن، ليس ضمن حالة الاحتفال العالمي فحسب، بل لأنه موسيقي جدير بأن نقدّم أعماله ويتعرّف عليها الجمهور، لأنها موسيقى تتجاوز العصور لعظمتها وصفائها الشديد”.
ولا يخفي الموسيقار السوري إعجابه الشخصي بموسيقى بيتهوفن ومدى تطوّره المهني، حيث قال لـ”العرب”، “لذلك بدأنا الحفلة بالسيمفونية الأولى له، والهدف مواكبة التطور المهني الذي تحقّق. بيتهوفن موسيقي شجّع على كسر القواعد والخروج عن الأنماط المعروفة قبله.. في السيمفونية السادسة أوجد إبداعات كبيرة، سواء بعدد الحركات أو نمط التأليف. هو موسيقي يخلق الجديد فطريا، يفعل شيئا ويصير قاعدة بعده”.
وعن أهمية الدور الذي تقوم به الفرقة السيمفونية السورية لإيصال صوتها للناس في البلد وخارجه، يقول ميساك باغبودريان “أن نكون موجودين على الساحة العالمية للموسيقي أمر صعب. فأن تكون حاضرا مع فرق شهيرة لها خبرة كبيرة أو أخرى حديثة، لكنها وصلت إلى مراتب عليا من خلال استقطابها لخيرة عازفي العالم، فهذا الأمر غير متاح بالشكل الجيد لنا. فأعضاء فرقتنا عشقوا الموسيقى نتيجة وجود شخص اسمه صلحي الوادي، هو الذي زرع البذرة فينا وصارت رسالتنا”.
كما يؤكد الموسيقار السوري أن سببا آخر حفّز الفرقة على العمل والحضور بانتظام في المشهد الموسيقي السوري، هي الحرب السورية التي جعلت أعضاء الفرقة يستمرون في تقديم موسيقاهم بالداخل والخارج خاصة. قائلا “في حالة الحرب التي تعيشها سوريا منذ أزيد من ثماني سنوات، كان علينا أن نوجّه رسالة إلى الخارج مفادها أننا لسنا مُصدّري إرهاب وعنف كما يحاولون تصويرنا عليه. لذلك كان علينا أن نعمل بمستوى عال أمام مجتمعنا أولا، ثم لنمثّل سوريا عالميا ونصدّر أنفسنا ثقافيا ثانيا. الإدراك المجتمعي وإيمانه بنا جعلنا نستمر في العمل، فقوتنا نستمدها من الجمهور ومن الكوادر التي كانت معنا”.
وعن تأثير الموسيقى في البعد السياسي والحضاري العالمي وما قامت به الفرقة الوطنية السورية، يقول “كنتُ في إسبانيا منذ عامين في ملتقى لقادة الأوركسترا، حيث وجد 115 قائدا موسيقيّا من 40 دولة. طُلب مني أن أقدّم محاضرة عن كيفية تقديم موسيقى في زمن الحرب”.
ويسترسل الموسيقار السوري “لم أكن أدرك أن تجربتنا ستكون مثالا لدول أخرى. مثلا عام 2013 قدّمنا فكرة “من أجل شتاء دافئ نعزف”، وكنا نستقبل التبرّعات العينية ونوزّعها على الناس في مراكز الإيواء. صنعنا شعارا وقتها، هو “وجه بائس زائد نوتة موسيقية يساوي وجها سعيدا”.
ويقول ميساك باغبودريان “نحن لسنا أول من يتعرّضون للأزمات ويؤلفون الموسيقى، في اللحظة التي يقفل فيها الأطباء المستشفيات، سنتوقّف نحن بدورنا عن عزف الموسيقى. هم يشفون الجسد ونحن نشفي الروح”.