بوعلام صنصال.. كاتب فرانكو - جزائري يغذي أزمة غير مسبوقة بين الجزائر وفرنسا

لا تذكر الأوساط الأدبية أعمالا بارزة في رصيد الكاتب بوعلام صنصال، فمسيرة التأليف لم تبدأ إلا في سن الخمسين، ومنجزاته لا تتعدى حدود أصابع اليدين، إلا أن رعاية الدوائر اليمينية النافذة لقلمه، وملامسته للأوتار الحساسة اجتماعيا، حوّلتاه إلى نجم وقضية، خاصة بعد توقيفه من طرف السلطات الجزائرية، وانبراء الدوائر السياسية والإعلامية الفرنسية للدفاع عنه، فكان بذلك مادة دسمة لأزمة سياسية غير مسبوقة بين البلدين.
دخل البرلمان الجزائري بغرفتيه السفلى والعليا بقوة على خط الجدل الصاخب المتعلق بأزمة الكاتب الفرانكو – جزائري بوعلام صنصال الموقوف في الجزائر منذ منتصف الشهر الماضي، وقد تم تحويله إلى القضاء وفي ملفه تهم ثقيلة قد تكلفه عقوبات قاسية، حيث تعددت التصريحات والبيانات المنددة بتوسيع القضية إلى أروقة البرلمان الأوروبي.
ويبدو أن ضبط النفس الجزائري بدأ يفقد خاصيته تدريجيا، بعد التزام الصمت الرسمي تجاه الحملة التي تشنها دوائر اليمين الفرنسي ومنابره، وحتى تصريحات وزراء في الحكومة السابقة، قوبلت بعدم تفاعل الطرف الآخر، إلى غاية نقل الملف إلى أروقة البرلمان الأوروبي، والذي أخرج الجزائريين عن صمتهم.
◄ في إحدى رواياته شبه صنصال ثوار جبهة التحرير الجزائري بالجيش النازي، والإسلاميين المسلحين بمناضلي ثورة التحرير
ووجه مجلس الأمة الجزائري (الغرفة الثانية للبرلمان) انتقادات شديدة للبرلمان الأوروبي، واتهمه بـ”التدخل في الشؤون الداخلية للغير، والتعامل بمكيالين، ففيما يجري الضغط ومحاولة التأثير على مجريات القضية، يتم تجاهل الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، وعدم الالتفات إلى ما ترتكبه إسرائيل هناك.”
وأدان بشدة التصريحات التي وصفها، بـ”المشينة”، كما عبّر عن “استهجانه ورفضه المطلق لكل تدخل من البرلمان الأوروبي في الشؤون الداخلية للجزائر، لاسيما وأن الحق في التعبير بالجزائر المنتصرة بقيادة رئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون، يكرسه الدستور”.
يعد بوعلام صنصال، الذي شغل في وقت سابق منصب مسؤول سام في وزارة الصناعة خلال حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، من الأقلام الأدبية التي آثرت الهجرة من أجل استكمال مسيرته الأدبية التي بدأها متأخرا، حيث اشتغل في مؤلفاته الروائية على استهجان الإسلام السياسي، ولم يسلم منه لا التاريخ ولا الجغرافيا.
فقد شبّه في إحدى رواياته ثوار جبهة التحرير الجزائري بالجيش النازي، والإسلاميين المسلحين بمناضلي ثورة التحرير، كما لم يتوان في نفي الرصيد التاريخي والثقافي للدولة الجزائرية، بينما زعم في تصريح أخير له بأن “الحدود الجغرافية للجزائر لا تتعدى محافظة وهران، وأن غرب البلاد هو ملكية للمغرب.” وهي المزاعم التي أثارت استياء الرأي العام والمؤسسات الرسمية في البلاد.
وتركز نخبة أدبية فرانكفونية مهاجرة، من بينها بوعلام صنصال، على تسخير أقلامها من أجل انتقاد ما يوصف عادة بالثوابت المشتركة للجزائريين، في ما يتعلق بالدين والتاريخ بدعوى حرية الإبداع، الأمر الذي أعطى الانطباع لدى قطاع كبير من الجزائريين بأنها نخبة مبرمجة وفق أهداف ومخططات تيارات معادية للجزائر، وأنه يجري استغلالها تحت يافطة الإبداع الأدبي، لأنه لم يسجل لها حضور في الأغراض الأدبية الأخرى التي تثبت قدرتها على الإنتاج.
وحث مجلس الأمة في بيانه، أعضاء البرلمان الأوروبي “ممن انقلبوا على عقبيهم، مدعومين بلوبيات النيوكولونيالية الفرنسية المستنسخة عن سالفتها المقيتة، وسمحوا لأنفسهم، مرة أخرى، بكل وقاحة وسخافة وسذاجة ودناءة أن يتناولوا ويتداولوا بشأن الحريات وحرية التعبير في الجزائر، وبشأن قضية داخلية لدولة سيدة، على إجبار عواصمهم وسلطات بلدانهم الرسمية على تطبيق القانون، وعدم التراجع خطوات إلى الوراء”.
ودعاهم إلى الامتثال دون شروط، إلى “قرارات الجنائية الدولية بجلب والقبض على مجرمي الحرب الصهاينة الذين يمارسون حرب إبادة وتطهير مفروضة على غزة منذ أربعة عشر شهرا، والعالم يشاهد ويتفرج إلا قليلا منهم ممن غلبوا الحق وغلبوا ضمائرهم”.
الإبداع والثوابت
جاء رد مجلس الأمة أياما بعد الهجوم القوي الذي شنه نواب فرنسيون في البرلمان الأوروبي، على غرار ماريون مارشال لوبان، وكزافييه بيامي، ورافاييل غلوكسمان، على السلطات الجزائرية، التي وصفوها بأشنع الأوصاف، كـ”النظام الطائش”، و”الدكتاتورية”.
ولم تشهد العلاقات الجزائرية – الفرنسية تدهورا كالذي تعيشه في الآونة الأخيرة، حيث تشن دوائر سياسية وإعلامية وحتى رسمية، هجوما شرسا على الجزائر، إذ وجهت مختلف التهم والأوصاف لرموز النظام الجزائري، وعلى رأسهم الرئيس عبدالمجيد تبون، ونائب وزير الدفاع الجنرال سعيد شنقريحة.
وجاء بيان مجلس الأمة بعد التصريح الذي أدلى به رئيس المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) إبراهيم بوغالي، الذي بادر بالرد على اتهامات البرلمان الأوروبي، وتفادى ذكر الكاتب الذي أثار أزمة غير مسبوقة بين الجزائر وفرنسا، وتمتد تدريجيا لتشمل أوروبا، بعد طرح القضية على الهيئة التشريعية في بروكسل.
وقال بوغالي “انخراط البرلمان الأوروبي وبعض الدوائر السياسية والإعلامية الفرنسية في محاولة التدخل في الشأن الداخلي للجزائر ليس سوى ممارسة مفضوحة لصرف الأنظار عن الانتهاكات الحقيقية لحقوق الإنسان والقانون الدولي.” وتساءل “ماذا بقي من رصيد لهذه الأبواق في ما يخص الفصل بين السلطات أو استقلالية القضاء؟”
وأكد المتحدث على دور العدالة في بلاده في السهر على حماية الحقوق والحريات، وعلى أن يد القانون ستطال كل من تسول له نفسه محاولة المساس بأمن الجزائر واستقرارها.
ويذهب متابعون للشأن الجزائري إلى أن السلطات الجزائرية كان بإمكانها التعامل مع الملف المذكور بعيدا عن اللغط المتزايد في مختلف الدوائر والمنابر الفرنسية والأوروبية، تفاديا لارتدادات الحملة التي تشن ضدها، ومساهمتها في تعميق الأزمة مع فرنسا، في ظل المصالح المشتركة بين البلدين.
يرى المتابعون أنه لم يحدث طيلة عقود استقلال الجزائر عن فرنسا منذ العام 1962، أن تم حشد الدوائر السياسية والإعلامية اليمينية لانتقاد السلطات الجزائرية، وتحويل القضية إلى مشجب لتعليق كل المآخذ والانتقادات، بينما عرفت تلك الدوائر بالصمت عن قضايا أخرى أكثر إيلاما من وضع الكاتب بوعلام صنصال، سواء كانت داخل الجزائر أو خارجها، كما حدث إبّان العشرية الدموية (1990 – 2000) التي راح ضحيتها ربع مليون جزائري.
ولم يتوان الكاتب بوعلام صنصال، في التباهي بشبكة علاقاته مع رموز اليمين الفرنسي.
وردد نواب اليمين عبارات مشينة داخل البرلمان الأوروبي ضد السلطات الجزائرية، كالقول “هناك 3500 مجرم جزائري في السجون الفرنسية، نحن مستعدون لمبادلتهم بالكاتب بوعلام صنصال.” و “لا بد من إعادة النظر في الاتفاقيات المتعلقة بالهجرة مع الجزائر.” و”في الجزائر نظام دكتاتوري يضطهد المثقفين”.
ودخلت شخصيات أكاديمية وفكرية حائزة على جوائز مرموقة فرنسيا ودوليا، على خط الاستقطاب الحاد الذي أحدثته قضية الكاتب الفرانكو – جزائري بوعلام صنصال، بعدما وقّعوا عريضة تطالب السلطات الجزائرية بإطلاق سراح الرجل وجميع الموقوفين بسبب أفكارهم في أقرب وقت ودون شروط.
وطالب كل من آني إرنو، جان ماري لو كليزيو، أورهان باموك، وول سوينكا، وكتاب آخرون من بينهم الكاتب البريطاني سلمان رشدي، بالإفراج عن الكاتب الموقوف منذ منتصف الشهر الجاري من طرف السلطات الجزائرية.
وقال الموقعون على البيان، بأنه “لا يسعنا أن نبقى صامتين. فالمسألة متعلقة بالحرية وبالحق في الثقافة وبحياتنا، ككتاب مستهدفين بهذا الترهيب”.
وأكدت الأكاديمية الفرنسية العريقة، على ضرورة إطلاق سراح الكاتب من دون تأخير، واحترام الحقوق الأساسية للكاتب وتوفير الحماية الجسدية له. وقالت بأنها “ترحب ترحيبا حارا بمبادرة الفائزين بالجائزة الكبرى للرواية، وتشاركهم الأمل في إطلاق سراح بوعلام صنصال من دون تأخير، وأن جميع أعضاء أكاديميتنا متشوقون لرؤية هذا الكاتب، الذي ينتمي إلى فرنسا والجزائر على السواء، وأن يعود في أسرع وقت ممكن إلى الحياة التي كانت حتى الآن حياته، والتي تسكنها رغبة عنيدة في الكتابة وعدم الخضوع”.
أذرع أدبية في خدمة اليمين
يعيش المشهد الجزائري خلال الأسابيع الأخيرة، على وقع سجال محتدم بين مواقف متماهية لعدد من الكتاب عبروا عنها من خلال كتب لهم ظهرت إلى الساحة، وغذت التجاذب السياسي والأيديولوجي القائم بين المواقف الرسمية والشعبية القومية.
وكانت رواية “الجزائر اليهودية” للكاتبة الفرانكو – جزائرية هيديا بن ساحلي، أول من سجل الجدل المحتدم، كونها لامست وترا حساسا في ظرف استثنائي في المنطقة، ثم تتويج رواية “حوريات” للكاتب الفرانكو – جزائري الآخر كمال داود، الذي استثمر في قصة واقعية لسعادة عربان، لتسويق صورة همجية ووحشية للتطرف، وتلتها قضية توقيف الكاتب بوعلام صنصال، بمطار الجزائر.
◄ الكاتب بوعلام صنصال لم يتوان في التباهي بشبكة علاقاته مع رموز اليمين الفرنسي
لكن للكاتب والإعلامي عبدالعزيز غرمول، رأي آخر، يتمحور حول طريقة التعاطي مع قضية بوعلام صنصال، وكل من يعارض الخط السياسي للسلطة سواء كان في الخارج أو في الداخل، في إشارة إلى التكميم الرسمي المضروب على النخب والناشطين بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية.
وقال في منشور له على صفحته الرسمية على فيسبوك، “أنا غاضب جدا من هذا النظام الذي لا يزال يستعمل نفس الأساليب البدائية – البوليسية لتكميم الأفواه، وترويع الأقلام، وسجن المختَلفِ معهم، وترهيب المعارضة، وجلب السخرية والمناكفة لبلدنا من طرف بلدان العالم ومنظماته”.
وأضاف “بعد ذلك كله، أصحاب الرأي هؤلاء هم رعاياه الذين احتضنهم ودلّلهم وأنعم عليهم بالمزايا والتبجيل، وساهم بشكل مباشر وغير مباشر في الدفع بهم إلى منصات عالمية للتفاخر بتمثيلهم له، فكيف يسمح لنفسه اليوم بمضايقتهم، ويَضيق بانتقادهم، ويسجنهم بسبب آرائهم المعروفة، والمكتوبة، والمعلنة”، في تلميح إلى الوظائف السامية التي كان يتقلدها بوعلام صنصال في وزارة الصناعة.
وفي قراءة أخرى للموقف، يرى غرمول، بأن “أمثال صنصال وداود وعبود والمغنّي خالد، هم مقيمون في الجزائر وليسوا مواطنين جزائريين، لأنهم عبّروا عن ولائهم للوطن الذي يشعرون بالانتماء إليه، فما لم يفهمه هذا النظام هو أن الوطن ليس هو المكان الذي ولدنا فيه، وإنما المكان الذي نؤمن بالانتماء إليه”.