بودابست الساحرة خرافة الجمال وموسيقى لا تنتهي

“بودا” و”بشت” هما أشبه بجناحي طائر لا يزال محلقا فوق مياه نهر الدانوب الذي لا يذكر إلا وتلحق به صفة الأزرق ليقال “الدانوب الأزرق” وهو عنوان الفالس الشهير الذي ألفه يوهان شتراوس 1866 وعزف بعد عام.
لا ينظر المرء إلى مياه نهر الدانوب إلا ويمتلئ جسده بترددات ذلك الفالس الذي لطالما أغرق فتيان وفتيات فيينا في بحر خيالي يخترق أراضي الإمبراطورية التي كانت قائمة ما بين سنتي 1867 و1910.
حيكت ببطء
كل الشوارع في الضفتين تقود إلى النهر. غير أن جولة نهرية لا يمكن سوى أن تخدع العين التي لن ترى سوى مشاهد عابرة. فالمدينة التي تتميز بشوارعها وأرصفتها العريضة لا تقدم نفسها للعين العابرة إلا باعتبارها سجادة شقت على عجل بعد أن تمت حياكتها ببطء.
ذلك ما دفعني إلى اختراق المدينة مشيا لأصل إلى نهر عشاقها. ولكن متعة النظر من جانب بشت إلى جانب بودا ستكون هي الأخرى مخادعة. وهو ما عرفته في اليومين الأخيرين من رحلتي حين تولى الصديق عامر السامرائي رسم خريطة نزهتي المرهفة التي مزجت بين الحواس بحيث بدت المشاهد المرئية كما لو أنها نشيد متلاحق من الأصوات وصار للتاريخ لسان يتذوق الأطعمة فيما كانت روائح المطبخ المجري تملأ أنفي بأبخرتها. وكلما ألقيت خطوة على الشوارع التي رصفت بالحجر كنت ألمس أثرا لضربة شمس من نهار ضائع. ومثلما ترجم السامرائي مئات من القصائد المجرية قدم ترجمة لما صعب على عيني رؤيته من واقع السحر البصري.
هناك الكثير من الشعر غير المكتوب في بودابست. ذلك ما لم يقله السامرائي الذي أقام في المدينة منذ أكثر من أربعين سنة وصار مولعا في البحث عن خفاياها من خلال الشعر. تلك موهبة استثنائية في التعرف على مستويات اللغة المجرية المعقدة في أصفى حالاتها.
مذهلة بودابست بشوارعها العريضة والواسعة. وهي مدينة مخططة بطريقة دقيقة، لا عشوائية فيها تسمح بوقوع خطأ. “لا يمكنني عبور ذلك الشارع العريض انطلاقا من الإشارة الخضراء، سيكون علي أن أركض” ذلك ما قلته لنفسي أول مرة. ولكني اكتشفت أنني سأصل وإن مشيت متمهلا. هناك مؤامرة من أجل أن نصل سالمين. حلمي أن أصل إلى نهرها ولكن لم يكن ذلك إلا مزحة.
خيل إلي أن شارع الموضة لن يكون قصيرا ولن ينتهي وأن الجميلات من كل الأنواع سيفلحن في اختطافه من الأرض ليكون شارعا سماويا. ولكن بعده ما الذي سيقع؟ سأمشي وأمشي. هناك مسافة تشير إلى وجود نهر. هل أنا أسير في اتجاه الدانوب؟ الأزرق البريء وأنا المقنع الذاهل عن وجوده المباشر. كان علي أن أتفق مع كثيرين لكي أتأكد من وجودي في لحظة ما من تاريخ هذه المدينة التي تهب الزمن عطرا.
◙ بودابست مذهلة بشوارعها العريضة والواسعة. وهي مدينة مخططة بطريقة دقيقة، لا عشوائية فيها تسمح بوقوع خطأ
ربما سيضحك فازرلي لأنني أنتظره في مقهى قريب من كاتدرائية وهو يعرف أنني قادم من سامراء. “هل عليك أن تمنحني قبلة مموهة؟” تلك مدينة شامخة لا يمكنني النظر إلى سقفها. ولكن يا فيكتور هل يمكن أن نكون حقيقيين، أنا في مرآتك وأنت في مرآتي؟ ذلك هو سؤال مصيري الذي صار يلحق بي وهو يقول “أيها السيد لقد نسيت قبعتك على المقعد”.
ألتقيك سيد فازرلي لأنني لا أملك سوى وعد بأن ألتقيك في مدينتك التي هربت منها إلى باريس لتصنع معجزتك في فن الأوب آرت أو فن الخداع البصري. أنا هارب مثلك. يصنع كل واحد منا معجزاته الصغيرة بخطى مرتبكة.
في حضرة الموت الخالد
في متحف الفنون الجميلة القريب من ساحة الأبطال رأيت مومياء مصرية. وتساءلت “ألا يحق للموتى أن يناموا بسلام؟” كل هذه الأرض التي انغمسوا في أناشيدها السرية لم تمنع المتطفلين من اختراق حرمة مشاعرهم التي اعتقدوا أنها حين ستنام معهم لن يكون في إمكان أحد أن يمد أصابعه إليها.
لقد شعرت بالخجل وأنا أقف أمام تلك المومياء المصرية. من هو ذلك الشخص المغطى بالأربطة؟ أهو رجل أم امرأة؟ كان علي أن أهرب منه قبل أن ألتقيه. من حقه أن ينام مطمئنا إلى خلوته. ولكن وجوده صنع مزارا. هو مثلي زائر حل في بودابست. ولكنه زائر لا يغادر مكانه في متحف الفنون الجميلة.
ما علاقة ميت بالفنون الجميلة؟ نحن نلفق مزاجنا. كذلك نكذب على أعضائنا. فالمصري الميت ليس عملا فنيا. ذهب الشخص إلى جنته فلماذا الإصرار على النظر إليه كما لو أنه لا يزال حيا؟ كائن متحف. أيود أحدنا أن يكون فرجة بعد موته؟ أعتقد أن هناك سخرية من الموت تنطوي عليها تلك الممارسة. دعوا الموتى يهنأوون بموتهم. ليس للميت وجه.
سأشعر بالخجل لأني لم ابتسم له ولكني صمت احتراما لصمته. لم يكن يموت. إنه ميت. ذلك شخص مات منذ خمسة آلاف عام. له لغته وله عاداته وله سعادته غير أن ألمه قد يشبه ألمي. نحن أخوان في الألم. ولو فكرنا معا في الكتابة لما اهتدينا إلى الفكرة التي تقود إلى موتنا. أنا وهو نحب الحياة. علينا إذا أن نكتب عن الحياة التي يجب أن نعيشها أولا. لقد اعتذرت لذلك الميت لأني اخترقت خلوته مثلما يفعل أي سائح أبله ولكن مشهده وهو نائم لا يوحي إلا برغبته في أن يقوم في أي لحظة.
أحيانا يستغرق الرسامون في رسم لوحاتهم سنوات. ما معنى ذلك؟ إنهم يتركون لوحة لكي ينشغلوا بغيرها ومن ثم يعودون إليها. ذلك ما حدث مع دافنشي وهو يرسم الموناليزا. ألا يحق للرسام أن يستمر في رسم بورتريه لامرأة خمس سنوات؟ في المتاحف تلحق قصاصات ورقية تعرف باللوحات، نتعرف من خلالها على زمن إنتاج اللوحة. يكتب أحيانا “رسمت اللوحة بين سنة كذا وسنة كذا” ذلك لا يعني أن الرسام لم يرسم لوحة أخرى في ذلك الزمن بقدر ما يعني أن تلك اللوحة كانت متعسرة الولادة. ولكن الرسام الذي رأيته على ضفة الدانوب لا يزال منذ أكثر من مئة سنة يرسم لوحة واحدة. حين تلصصت على لوحته لم أر شيئا. ذلك لأنه لم يبدأ الرسم بعد.
فكرت في أن أجلس أمامه ليرسمني. ولكنه ليس رسام ساحة. لقد تم جلبه لكي يكون جزءا من المشهد. سنرسم من أجل أن نكون وحوشا. تلك فكرة ليست مناسبة لرجل قرر أن يتعرف على الرسم باعتباره حدثا كونيا. قلت “سأقولك لكي تقولني وأحدثك لكي تحدثني وأرسمك من غير أنك ترسمني” خرافة لا ميلاد لها ولا شهادة وفاة. تضحك لأنك تكتب. ولكن لا مهنة للكتابة حين يتعلق الأمر بعذابات الرسام. ليس مهما ما الذي يرسمه الرسام. ما يحبه الرسام هو الأهم. دافنشي أحب موناليزا.
الزمن والموسيقى
تحت المطر كان يعزف. العزف الذي لا يسمع ليس مهما. هناك ما هو أهم. مشهد رجل يجلس على الأرض تحت المطر ليعزف ببطء شديد وصوت منخفض. فتح بيت كمنجته لتلقي النقود التي لا ينظر إليها فهو مهموم بالعزف الذي تتهشم جمله فلا يصل منها إلى الأذن إلا الفتات. فتات موسيقى.
◙ المدينة بأرصفتها العريضة لا تقدم نفسها للعين العابرة إلا باعتبارها سجادة شقت على عجل بعد أن تمت حياكتها ببطء
أوقفني المشهد. ذلك رجل صنع مشهدا استثنائيا. ربما هو مشهده الأخير. فالرجل عبر حدود الزمن منذ سنوات. لم تعد لديه رغبة في أن يعود ما مضى من سنوات عمره. هل أتحدث عن حطام لم أر تفاصيله؟ خطأ في النظر. ذلك لأن الرجل يسمع جيدا ولا يهمه ما يحدث من حوله. يصل صوت الكمنجة إلى أذنيه. هناك حيث تقيم روحه. لا صفة له من غير كمنجته ولا معنى لكمنجته من غير جلسته غير المبالية. هما الشيء نفسه. هو وكمنجته خلقا من أجل أن يكونا في زمان لا ساعات فيه وفي مكان لا ينتمي إلى الجغرافيا.
التقطت صورة له وأنا أشعر بالخجل. لا يوحي بأنه ينتمي إلى المكان غير أنه صنع مكانا يشبهه. بالرغم من أنني لم أسمع إلا أنينا خافتا، لم أر من الرجل إلا أعضاء فالتة غير أنني عشت في قلب الأسطورة. سقطت في البئر التي أعرف أن أحدا لن يمد لي حبالا من أجل الخروج منها.
سأكون وحيدا هناك وأنا أحاول أن أفسر ما التقطه من أنغام. هل خرج ذلك العازف من عالم الأموات؟ أما كان علي أن أسأل نفسي “هل كنت حيا؟” اللعنة. أحدنا يفكر في الآخر. الأعمى والبصير. الميت والحي. النابت والطائر. الثقيل والخفيف. كان عازف الكمنجة خفيفا، رجلا بلا وزن تقريبا. أشبه بالذكرى. الوهم الذي حضر فجأة من غير أن يخبر صاحبه. كل محاولة لوصفه ستكون فاشلة. لولا المطر في هذا الربيع الأوروبي لشعرت بأن الفصول قد غيرت عاداتها.
لم يكن الوضع سيئا. تلك جملة قاسية بالنسبة إلى رجل مهموم بموسيقى كمنجته من غير أن يفكر في المطر. في لحظة عبث استثنائية أصابني جنون الموسيقى. سيكون علي أن أفكر في النهايات التي ليست لديها بدايات. بالنسبة لذلك الرجل فإن أي سؤال لا يمكن أن يقع في محله. ليس هناك واقع لأن الحقيقة فقدت تأثيرها أو أنها لم تعد موجودة. هل علينا أن نفكر في الحقائق في ظل واقع غائب؟ أفكر في الموسيقى وأفكر في الرجل. مرة هنا ومرة هناك. وفي المرتين لا تقع خطوتي على قدمي. هناك دائما إيقاع مختلف. لقد فهمت كيف يمكن أن نكون من غير عمر.

◙ المدينة أكبر من نهرها