"بوح" فيلم اجتماعي بطلاه مسرحيان يعيشان ألم الإنسان الدفين

اعتاد بعض مبدعي الفن السينمائي التقاط تفاصيل حياتية بعيدة في عمقها الوجداني في دواخل النفس البشرية ليقدموها من خلال تجارب سينمائية لا تعنى بتقديم حكاية سردية تقليدية، بحيث تظهر ملامح قصة إنسانية ما، بل إنهم يتجهون لتقديم حالة من التوغل العميق في مواجع تلك الشخوص لينبشوا ما يعتمل في دواخلهم من متاعب وقلق ووجع. وفيلم “بوح” للمخرج أيهم عرسان، الذي تنتجه المؤسسة العامة للسينما في دمشق، يقدم هذه الحالة من خلال حياة ممثلة مسرحية وزوجها المخرج المسرحي.
يبدو واضحا توجه المخرج السينمائي أيهم عرسان لتبني مواضيع المرأة والطفل، وهي التي تحمل الكثير من الحساسية، خاصة في مجتمع يعاني حتى اللحظة من بعض الموروثات التي تكبل تطور حياتهما، ويقيدهما بالكثير من الحواجز والعوارض.
كتب عرسان سابقا للسينما، وحازت نصوصه لأكثر من مرة على جوائز في مسابقة الفيلم الروائي القصير التي تنظمها المؤسسة العامة للسينما، ففاز سيناريو فيلمه “حلم” وكذلك سيناريو فيلمه “جواد” على الجائزة الأولى في سنتين متتاليتين.
كما قدم على دفة الإخراج العديد من الأفلام الروائية القصيرة، كان من أهمها على منصة التتويج السينمائي الفيلم الروائي القصير كبسة زر للكاتب شادي شاهين الذي شاركت به المؤسسة العامة للسينما في سبعة مهرجانات عربية عام 2017، تحصل فيها على ست جوائز منها: أفضل فيلم في مهرجان جامعة بابل السينمائي الدولي في العراق والجائزة الفضية وجائزة أفضل ممثلة في مهرجان واسط السينمائي الدولي في العراق أيضا وجائزة أفضل سيناريو في جائزة تهارقا للسينما في السودان وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان مزدة السينمائي في ليبيا. كما قدم لاحقا فيلم قطرات الذي تعرض فيه لموضوع المرأة والطفل أيضا وكان من بطولة الفنانة الشهيرة شكران مرتجى.
فيلم اجتماعي
يقترب أيهم في فيلمه الجديد بعنوان “بوح” بخطوات واثقة نحو تحقيق أول أفلامه خارج شكل الفيلم الروائي القصير، كون فيلم “بوح” سيكون ممتدا زمنيا على مساحة تقارب الساعة. وفيه يقدم حالة اجتماعية وإبداعية عميقة تخص فنانة مسرحية شهيرة وزوجها المخرج المسرحي وما يتربص حياتهما المهنية والشخصية من مصاعب. فبطلة الفيلم غادة (رنا شميس) فنانة تعيش في ظل حياة زوجية هادئة مع زوجها المخرج المسرحي كمال (تامر العربيد)، لكن الحياة دائما ما تقدم الجديد والمليء بالتشويق والإثارة وربما نكء الجراح.
في الفيلم مساحة كبيرة، تسترجع من خلالها الشخوص خاصة بطلته غادة، طيفا واسعا من ماضي حياتها مع زوجها ومحيطها، وتتقاطع هذه الذكريات مع أحداث بعينها، لتشكل حالات إنسانية مهتمة بتربص حدث محدد أو خلل طارئ لكي يصبح متاحا الحديث عنه. ولا يقدم الفيلم مسارات درامية حافلة بالأحداث بمقدار ما يهتم بتقديم حالات نفسية عميقة لها مدلولات إنسانية كبرى على حياة شخوصه.
ويقول كاتب ومخرج الفيلم عن العوالم التي يقدمها فيه “يتحدث الفيلم عن ذاك الوجع المخبوء في زوايا الروح والانكسارات النفسية التي تتراكم يوما بعد يوم، طية فوق طية مشكلة ثقلا كبيرا يثقل على القلب، هي تفاصيل صغيرة تتعلق بالشريك تارة وبظروف العمل والحياة تارة أخرى، فيصبح المرء محتاجا إلى البوح ليطهر قلبه وروحه ويسمع بعضا من أنينه لمن يفترض أنه حضنه الدافئ، كالطفل الذي يحتمي بحضن والديه بعد أن كانا قد عنفاه أو غضبا منه”.
ويتابع عرسان في تقديم فيلمه “البوح حالة وجدانية عالية الصدق وهمسها يشبه صرخة مكتومة مخنوقة، هو فيلم يتحدث عن الشروخ البسيطة التي يؤدي تزايدها إلى تهديد العلاقة مع الشريك وينذر بتداعيها”.
ويلفت عرسان إلى أن “الفيلم اجتماعي يتنقل بين شغاف القلوب يضيء على تلك الأوجاع الخبيئة داخل كل منا وهو يتناول بشكل عميق موضوع البوح الإنساني من خلال الحياة وتراكمات الأيام وأحداثها، وهو موضوع ينتمي للحالة الاجتماعية التي يفضل الخوض فيها كونها تعيش في بال الناس أكبر وقت ممكن، وتقدم لهم صورا من حيواتهم التي يعيشونها”.
مسرح وسينما

الفنانة رنا شميس حققت جائزة أفضل ممثلة من المخرج عرسان في تعاون سابق بينهما من خلال فيلم “كبسة زر” في مهرجان واسط السينمائي في العراق، وهي تقدم في الفيلم الجديد شخصية الممثلة غادة، التي تمتلك قدرا كبيرا من الثقافة والفكر، وتمتلك مشروعا حياتيا بتأسيس أسرة وشخصية فنية، وتقدم نموذجا حياتيا للعديد من النماذج من النساء اللاتي وجدن فعلا في ساحة الفن السوري وكانت مصائر حيواتهن متقاطعة مع مصير حياة شخصية غادة.
وفي تفاصيل الشخصية ما يجعل متابعة شريحة كبرى من الجمهور للفيلم أمرا حتميا، كونها شخصية عاشت في محيط الناس مرارا، وعايشها الناس في حياتهم اليومية وتفاعلوا معها بوضوح.
أما الفنان المسرحي تامر العربيد فهو يغادر منصة التعليم المسرحي الأكاديمي، ليقدم شخصية المخرج المسرحي كمال زوج الممثلة غادة، والذي تربطه بها علاقة مهنية وزوجية طويلة، تحمل في الظاهر الهدوء، لكنه قد ينذر بما هو مختلف. كيف ولماذا؟ هذا ما يجيب عنه الفيلم من خلال حكايته التي يقدمها بالكثير من الشفافية حينا والألم حينا آخر.
وتامر العربيد هو عميد المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، يقدم هذا الدور في تقاطع مهني نادر، حيث قدم الكثير من المسرحيات على منصة الإخراج، الأمر الذي يمكن ملاحظته في الفيلم، حيث سيظهر العربيد في كواليس العمل المسرحي كما لو أنها حقيقية.
وجمع الفيلم في الكثير من تفاصيله فني المسرح والسينما معا، فالشخصيتان الأساسيتان هما لفنانين مسرحيين وزوجين، وكان طبيعيا أن يكون الجو المسرحي حاضرا بقوة فيه، فكان أهم موقع تصوير للفيلم في مسرح الحمراء الذي صورت فيه المشاهد الأبرز. فقدم أبطال العمل مشاهدهم السينمائية على منصة مسرح الحمراء الشهير، في تداخل جديد يقوم به صناع السينما في سوريا، وهو الأمر الذي ساعد في تقديم حالة فنية أكثر نضجا وحيوية وعفوية من قبل الممثلين كونهم جسدوا أدوارا تقترب تماما من حياتهم المهنية الحقيقية.
ويذكر أن الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما وهو من تأليف وإخراج أيهم عرسان ويشارك فيه تمثيلا: رنا شميس وميلاد يوسف وروبين عيسى وتامر العربيد ويزن السيد ويوسف مقبل وخوشناف ظاظا ومنيب أربيل وصفاء سليمان ومحمد سالم وباسل فتال.
