بلد صغير لغاييل فاي أو الطفولة في مواجهة الحرب

ولد غاييل فاي في بوروندي من أب فرنسي وأم رواندية، ونشأ صغيرا في كيغالي عاصمة رواندا قبل أن يهاجر إلى فرنسا مع أمّه وأخته في سن الثالثة عشرة ومنها إلى بريطانيا حيث عمل سنتين. وبعد أعوام قضاها في إحدى ضواحي باريس، عاد منذ عامين مع زوجته وابنتيه ليقيم في كيغالي، مسقط رأس أمه، ومرتع طفولته.
عُرف كمؤلف وملحن ومؤدٍّ لأغاني الراب، لفت الأنظار عام 2010 في مهرجان “ربيع بورج” بألبوم أصدره ضمن فرقة “حليب وقهوة وسكر” كتعبير عن ميل أعضائها إلى ثقافة الكريول وموسيقى الهيب هوب.
ثم شق طريقه بمفرده عام 2013 بألبوم عنوانه “بيلي بيلي على هلالية بالزبدة” (وبيلي بلهجة أهل رواندا هو نوع من الفلفل الأحمر صغير الحجم حار المذاق)، جمع فيه شتى الألوان الموسيقية من الراب الممزوج بالسول والجاز، إلى السامبا البرازيلية، مرورا بالرومبا الكونغولية. ثم فاجأ الجميع برواية عنوانها “بلد صغير” مثلت حدث موسم الجوائز، فبعد تتويجها بجائزة مؤسسة “فناك” لأول عمل روائي، احتلت القوائم القصيرة لأهم الجوائز الفرنسية، من فيمينا وأنترالييه وميديسيس إلى رونودو وغونكور.
“بلد صغير” (وهو أيضا عنوان إحدى أغاني ألبومه) إشارة إلى بوروندي التي رأى فيها النور، هي رواية عن طفولة نضجت قبل الأوان بفعل مجازر فظيعة، وبطلها غابرييل أو غابي، هو خلاسي من أمّ رواندية مهاجرة، وأب فرنسي مقاول مقيم منذ أعوام. كان الطفل غابي يعيش في حيّ مرفّه ببوجمبورا عاصمة بوروندي، حيث كان يزجي الوقت في اللهو والعبث صحبة أقرانه، في جو مسربل بالهدوء واللامبالاة والكسل اللذيذ، إلى أن فاجأ أخته آنا ترسم مدنا تحترق، وجنودا مدججين بالأسلحة، يرفعون سواطير ملطخة بالدماء وأعلاما ممزقة. ولم يكن ذلك محضَ خيال، بل تصويرٌ لما كان يحدث في الجوار.
فخلف الطبيعة الخلابة التي يطنب الكاتب في وصف عناصرها، من غابة كيبيرا إلى بحيرة تنجانيقا، تتبدى خلافات يتصدع لها المجتمع كما يتصدع الجدار تحت سيل قوي قبل أن ينهار تماما. على مستوى الأسرة أولا، حيث يصرّ والد غابي على البقاء للاحتفاظ بالامتيازات التي ورثها الأوروبيون من المرحلة الكولونيالية “هنا نحن محظوظون، هناك (أي في فرنسا) سنكون لا شيء”. فيما تتشبث زوجته بالرحيل لأنها تدرك بإحساس الأم ما يتهدد أسرتها “عندما ترى أنت حلاوة الهضاب، أعرف أنا بؤس من يقطنونها. وعندما تنبهر بجمال البحيرات، أشمّ غاز المناجم الذي ينام تحت مياهها”. وعلى مستوى الأهالي ثانيا وقد انقسموا على أساس طائفي بين توتسي وهوتو، خصوصا بعد مصرع أول رئيس هوتو عام 1993، معلنا عن اندلاع الحرب الأهلية.
شكّل انفصال الأمّ عن زوجها أول جرح يدمي قلب الطفل غابي، ونقطة فارقة يؤرخ بها مسارين، مساره العائلي وقد بات على أهبة الهجرة رفقة أمه وأخته، ومسار معيشه اليومي، إذ انقسم الأخلاّء هم أيضا على أساس طائفي، في بلد ذي أغلبية من الهوتو وجيش يقوده التوتسي رفض نتائج أول انتخابات ديمقراطية تعيشها البلاد، فتحولت السياسة إلى مسألة إثنية لا سيما بعد استفحال الوضع في رواندا المجاورة، التي اجتاحتها عمليات إبادة جماعية واسعة لقبائل التوتسي عام 1994 إثر اغتيال رئيسها الذي ينتمي إلى الهوتو.
|
وبعيون طفل يكتشف فجأة أنه خلاسي وتوتسي وفرنسي، يصف الكاتب ما يمكن أن تنحدر إليه النفس البشرية من حيوانية بدائية، لا مكان فيها للآخر، بتواطؤ من القوى الغربية وفي مقدّمتها فرنسا، إما بتسليح المتحاربين، أو بالسكوت عن جرائم فظيعة لم يسلم منها الأطفال والنساء والعجائز، وحتى رجال الدين، فقد انتشرت ميليشيات من الجانبين تحرق القرى وتدك البيوت على رؤوس أصحابها، وتضرم النار في تلاميذ المدارس داخل فصولهم، وتنفّذ أحكامها على كل من تشتبه في انتمائه رميا بالرصاص في الشوارع.
كان غابي يود أن يظل محايدا، أن ينسحب وينعزل لكي لا يرى ما يجري ولا أن يعلم بحدوثه، ثم كان انتهاك زقاق الحيّ الذي يقيم فيه، مرفأ السلم الذي كان يلتقي فيه مع أترابه ليرْوُوا لبعضهم بعضا حكايات وطرائف، ويدخّنوا في غفلة من عيون الكبار، ويتسلقوا أسيجة منازل الجيران لاختلاس بعض الفواكه، ثم تحول إلى مكان للموت والجريمة. فلم يبق له من ملاذ غير كتب كانت تمده بها جارة يونانية، وجد فيها فرصة للارتحال بعيدا عن رائحة الموت.
وهو ما يسترجعه بعد أن هاجر وصار كهلا كي يروي حكاية يصير فيها البريء مذنبا والطفل الأكثر دموية قسّا إنجيليا، والحيوانات الأليفة ينقلها أصحابها البيض الأوروبيون إلى بلدانهم الأصلية لحمايتهم من الخطر، بينما يظل الهوتو والتوتسي يتقاتلون بلا هوادة ويذبح بعضهم بعضا على مرأى العالم المتحضر.
يقول فاي “كتبت هذه الرواية لأعيد إلى الوجود عالما منسيا، وأسرد أوقاتنا المرحة، وأحاديثنا العابثة ونحن جالسون على صناديق بيرة، وأجواء حيّنا العبقة بروائح أشجار الليمون وعطر البنات.. كتبتها كي أصرخ أمام العالم أجمع بأننا وُجدنا، بحيواتنا البسيطة، وأيامنا الرتيبة، وأوقات فراغنا التي تبعث على الملل أحيانا، وأننا كنا نعيش لحظات من السعادة وددنا لو تدوم، قبل أن نُضطر إلى الرحيل في شتى أصقاع المعمورة، ونصبح شتاتا من المنفيين واللاجئين والمهاجرين وعابري حدود لا يقرّ لهم قرار لامتناع الدول الغربية عن قبولهم في الغالب”.
“بلد صغير” رواية تتنقل بين ضوء وظل، نور وعتمة، تستحضر مكابدات طفل ألفى نفسه فجأة وسط رحى تاريخ تطحن بلا رحمة، وفّق الكاتب في نقل بعض أطوارها بدقة مرعبة، مازجا التراجيدي بالروح المرحة في تصوير من حاولوا النجاة من تلك المأساة، وهم في الغالب أفراد لا تزال تسكنهم أشباح الماضي.
كاتب من تونس مقيم بباريس