بلا قيود

في حِقبِ الصحراء قبل العمران، كان شرف القبيلة أو سمعتها، يتوقف على قصيدة شعر، أو شطرٍ من البيت. لذا كانت القبائل تحتفل، كلما نبغ شاعر منها، يدافع بلسانه عن قبيلته، بالضراوة نفسها، التي يقاتل بها الفارس بسيفه. فلم يكن العُربان يَهْنئون إلا بِغلامٍ يولد، أو شاعر يَنبُغ أو فرسٍ تُنتج!
في صحراء الأرض، وصحراء العقول، لم تكن هناك حكومات مركزية، ولا محاكم يقف أمامها شاعر الهجاء، لكي يقدم الأدلة التي تدعم ما نضحت به القصيدة من قدحٍ وذم للمهجو. أما المحايدون من الأطراف الأخرى، فالمهم عندهم أن يستمتعوا بالشعر مدحاً أو هجاءً، وأن يظل الشاعر على دأبه ينتج أبيات الحماسة والفخار والهجاء والغزل، ويركز اهتمامه على تجويد أسلوبه والارتقاء به من حيث كونه فناً وحيداً، في حياة صحراوية مجدبة، ووسيلة إيصال إعلامي. لذا كانت الشتيمة تفرض نفسها، بشفاعة الألفاظ الرنانة التي تطرب لها المسامع، ويتناقلها الرواة دون تمحيص، إذ كان للقصيدة وقع في النفوس، يضاهي وقع الحُسام، لاسيما عندما يُحسن الشاعر صياغتها، ويتلاقفها الحُفّاظ فيعلو شأنها وتصبح كما الوثيقة الصحيحة أو الوثيقة المزورة!
كان النبي محمد قد حث حسان بن ثابت على هجاء قريش وقال له “اهْجهم فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غَلس الظلام”، أي في آخر الليل. ذلك على الرغم من كونه -عليه السلام- لم يكن في بداية الدعوة يحب الشعراء، وظل يراهم مثل سدنة الأوثان، لكثرة ما قالوا في الهجاء. لكنه بعدئذٍ، رأى أن الشعراء بأسلحة القصيدة واللسان، مفيدون في التهاجي مع قريش. وقد جاءه الأمر السماوي الذي يأذن له بالقتال، متلازماً مع الإذن بمشروعية النظم لشعراء استثنائيين.
والطريف أن الخليفة عمر ظل متحسساً من الشعر، وقيل إنه مر ذات يوم بالمسجد، فوجد حسّاناً ينشد شعراً لنفرٍ من المسلمين، فجذبه من أذنه معنّفاً وقال له بصيغة استفهامية “أرغاءٌ هذا كرُغاء البعير؟” رد حسان مستأنساً بمكانته كفنان أبدع في هجاء قريش، رافضاً تعنيف الخليفة “إليك عني يا عمر، فوالله لقد كُنت أنشدُ في هذا المكان، لمن هو خير منك، فيرضى”!
في حقب الفوضى وضياع البوصلة وغياب التمحيص، ينفلت التهاجي في دنيا العرب، ويسهل قول أي شيء عن أي أحد وأي قوم وأية قضية، ولو بركيك اللغة وفجاجة الألفاظ، على النحو الذي يهبط عن مستوى الجاهلية.
فعند الأقدمين، كانت القصيدة تتخطى دون أن تخطئ، قيود القافية والوزن والإعراب، بينما لا قيود على كلام اليوم، وليس فيه موسيقى!