بعد وباء كورونا.. التكنولوجيا تفرغ المدن من سكانها

هل نشهد انتقال عدد متزايد من الأفراد من المدن في اتجاه بلدات صغيرة وقرى بسبب التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا وسياسات العمل عن بعد بحثا عن ملاذات آمنة وهربا من صخب المدن الكبرى وازدحامها؟ العالم منقسم في الرد على هذا السؤال، ولكن المؤشرات قوية على بداية موسم هجرة عكسية سيكون من نتائجها إفراغ المدن من سكانها.
لو سألت خبيرا في إدارة الأعمال نصيحة تضمن نجاح مشروع تجاري من عشرين عاما مضت لكان رده غالبا: ثلاثة؛ الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع.
نصيحة الأمس أصبحت اليوم وصفة للفشل. من يحتاج إلى موقع الآن؟ ألم ينطلق مشروع مؤسس شركة أمازون جيف بيزوس من مرآب بيته؟
وعندما طلب من بيزوس مرة تقديم نصائح للشباب للنجاح وتحقيق الثروة قدم 10 نصائح ليس من بينها إشارة إلى الموقع.
مصير المدن
دعونا لا نبالغ، ما زالت المحال التجارية في الأسواق الرئيسة تقدم خدماتها للزبائن، وما زالت الشركات الكبرى تحتل مساحات هائلة من المكاتب وسط المدن، ولكن إلى حين.
بعد عمليات الإغلاق في معظم أنحاء العالم لمواجهة جائحة فايروس كورونا المستجد أصبح العمل عن بعد التقليد السائد. واضطرت الشركات إلى تغيير موقفها ووضعت سياسات جديدة تجعل العمل عن بعد معيارًا جديدًا.
وتحدث كثيرون عن مستقبل العقارات بعد أن قلت الحاجة إلى المساحات المكتبية والتجارية. اليوم حجم مبيعات التجزئة عبر الإنترنت يفوق بكثير حجمها داخل المتاجر. من يحتاج إلى تحمل عناء التنقل للتسوق أو زيارة البنك وهو قادر على إنجاز معاملاته ودفع فواتيره عن بعد؟
قد نتساءل، وهذا مشروع، عن مصير شوارع تجارية في قلب العواصم الكبرى، ما هو مستقبل شارع أوكسفورد وشارع ريجينت في قلب العاصمة البريطانية لندن؟ وما هو مصير المحال التجارية في الجادة الخامسة وفي تايمز سكوير وماديسون سكوير في قلب نيويورك وشارع كودام في قلب العاصمة الألمانية برلين وآلاف أخرى من الشوارع التجارية عبر العالم؟
نحن لا نتحدث عن أمور ستحدث بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من الآن. نحن نتحدث عن اليوم وعن الآن. نتحدث عن المدن وقد فرغت الشوارع فيها من البشر.
ما تأثير التكنولوجيا على العلاقة بين العمل والتنقل والسكن في البلدات الصغيرة والقرى بعد أن أصبح الناس أحرارا غير مقيدين بالعمل داخل مكاتب ومتاجر؟ وما مصير المدن؟
قد يقول البعض إن ما حدث مجرد أزمة و”تعدي”. ولكن للأسف، أو لحسن الحظ، ما حدث ليس مجرد أزمة عابرة.
اليوم وبعد عام على ظهور الفايروس لأول مرة في الصين هناك شكوك متزايدة في أن يكون مصدره سوقا في مدينة ووهان الصينية أو تسرّب من مخبر في المنطقة ذاتها أو انتقل من الخفافيش التي تباع في أسواقها إلى البشر.
المعهد القومي الفرنسي للصحة والبحوث الطبية الحكومي في باريس فاجأ الجميع بالقول إن فرنسا قد شهدت أول إصابة بفايروس كوفيد – 19 في شهر نوفمبر 2019 وليس في 24 يناير 2020 كما يعتقد حتى الآن. في حين لم تعرف الصين أول إصابة لديها بذات الفايروس إلا بعد نحو 3 أسابيع وتحديدا في يوم 8 ديسمبر من العام 2020.
القضية إذا ليست مجرد إهمال بشري. ولفهم ما حدث وتقدير حجم المخاطر التي تهددنا علينا العودة إلى تحذيرات أطلقها مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس عام 2015 محذرا من تفشي وباء يصيب الجهاز التنفسي البشرية ليست مستعدة له وقد يؤدي إلى خسارة أرواح الملايين من البشر. حينها لم يأخذ العالم تحذير الملياردير الأميركي مأخذ الجد.
كوارث أخرى
كيف يمكن للعالم أن يصغي إلى تحذيرات تتعلق بالصحة من رجل أعمال وخبير في تكنولوجيا المعلومات، بينما لم يصدر أي تحذير عن منظمة الصحة العالمية؟
الأمر يتعلق بالقدرة على التحليل والتفكير المنطقي وقراءة المستقبل. لذلك علينا أن لا نتغافل هذه المرة عن تصريحات جديدة أطلقها غيتس بداية هذا الشهر ردا على سؤال وجه إليه فيما إذا كان العالم مستعدا لكارثة ثانية. وكان الجواب “لا”.
هل هناك كارثة أخرى تنتظر العالم قريبا؟
ردا على هذا السؤال أشار غيتس إلى احتمال مواجهة كارثتين هذه المرة. الأولى سيتسبب فيها تغير المناخ. كل عام سيكون هناك عدد أكبر من القتلى. والثانية رغم خطورتها لم يتم التحدث عنها بما فيه الكفاية “الإرهاب البيولوجي. شخص ما يريد التسبب في ضرر يمكنه هندسة فايروس، وهذا سيؤدي إلى خسائر أكبر مما تتسبب فيه الأوبئة الطبيعية مثل وباء كورونا المستجد”.
لكن غيتس لم يفقد الأمل نهائيا “إذا تعلم الناس من الوباء وتكيفوا معه يمكن أن تأخذ الأمور منعطفًا نحو الأفضل”. وختم بقوله “يمكننا زيادة استعدادنا حتى لا يكون لدينا عدد قتلى في أي مكان قريب مما لدينا اليوم”.
في الماضي كان سكان المدن يهرعون للاحتماء بالأرياف والبراري عند حدوث جائحة، يفرضون على أنفسهم عزلة مؤقتة تحميهم من الكوليرا (الريح الأصفر) كما اعتادوا أن يلقبوها، ومن الطاعون وغيرهما من الأوبئة، ليعودوا إلى أشغالهم في المدينة بعد تراجع الخطر.
اليوم تغير السيناريو وقد لا نشهد عودة إلى المدن، بل على العكس من ذلك سنشهد بسبب التغييرات التي أحدثتها سياسات العمل عن بعد انتقال عدد متزايد من الأفراد إلى مواقع بعيدة عن المدن تكون فيها تكلفة الإيجارات أقل وتوفر ظروف المعيشة فيها ملاذًا من التلوث ومن صخب المدن الكبرى المزدحمة وضجيجها.
ما لم يواجه العالم تلك الأخطار بشكل جدي ستخسر المدينة جاذبيتها وسحرها، وستفضل الأجيال اللاحقة العيش في بلدات صغيرة وقرى على العيش في المدن الكبرى خاصة بعد أن انتهت جاذبيتها بوصفها المكان الوحيد للحصول على فرص العمل، وبعد أن اكتشف العالم بفضل التكنولوجيا إمكانية العمل عن بعد.
الهجرة جنوبا
ووفقًا لتقرير صادر عن جامعة إسيكس في بريطانيا ستكون لدينا مجموعتان من العمال عن بُعد بعد الجائحة، وسيكون على إحدى المجموعتين الذهاب إلى المكتب مرة أو مرتين أسبوعيًا ويذهب أفراد المجموعة الأخرى إلى المكتب مرة واحدة في الشهر. ويتوقع التقرير أن يفضل أفراد المجموعة الثانية السكن بعيدا عن مراكز المدن.
بالطبع هناك من ينتقد فكرة العمل عن بعد ومن بينهم مارسيا آن ماير وهي سيدة أعمال صنفتها مجلة فورتشن في المرتبة الثامنة بين أكثر سيدات الأعمال نفوذًا في الولايات المتحدة. ورأت ماير أن الناس يكونون “أكثر إنتاجية عندما يعملون لوحدهم، لكنهم يكونون أكثر تعاونا وابتكارا عندما يعملون معا بعض أفضل الأفكار تأتي عندما ندمج فكرتين مختلفتين”.
إلا أن الأصوات المنتقدة للظاهرة تخفت مع اكتشاف العالم فوائد انتقال المهنيين العاملين من المدن إلى البلدات والقرى، فهو إلى جانب كونه حلا للاكتظاظ والتلوث، قد يساهم أيضا في إيقاف هجرة الكفاءات في مختلف المدن والدول في جميع أنحاء العالم بحثًا عن فرص عمل أفضل.
ولكن ماذا عن الحياة الاجتماعية وعن المتع التي يوفرها العيش في المدن؟ هل هناك استعداد للتضحية بهذا الجانب؟ يبدو أن الجواب نعم.
لقد غير الواقع الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي سلوك الأفراد خاصة فئة الشباب. وهذا أمر سيتضح بمرور الوقت ولن ننتظر كثيرا لرؤية ذلك يحدث.
ماذا عن الحياة الاجتماعية وعن المتع التي توفرها المدن وهل هناك استعداد للتضحية بكل هذا؟
في عام 1966 كتب الروائي السوداني الطيب صالح روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” تحدث فيها عن هجرة الشباب من دول الجنوب إلى دول الشمال طلبا للعلم والعمل.
رحل الطيب صالح عن عالمنا عام 2009 قبل عشر سنوات تقريبا من هذه التبدلات الجذرية التي نشهدها. هل كان الطيب سيختار عنوانا آخر لرواية أخرى جديدة ينشرها تحت اسم موسم الهجرة إلى الجنوب؟
ربما نعم. ولكن هذه المرة الهجرة لن تكون طلبا للعلم والعمل، بل طلبا للشمس وهربا من زحمة المدن واكتظاظها.