بعد مئة وسبعين عاما من جمعها: حكايات "وديان جبال فاترا" ترى النور

صامويل رويس: الحكايات الشعبية السلوفاكية لم تكتب لتُنيم الأطفال.
الثلاثاء 2023/06/27
حكايات شعبية بسيطة وممتعة

تضيء الحكايات الشعبية خيالات ورؤى وأفكار وجماليات الفنون وخصوصيات هذا الشعب أو ذاك في الشرق والغرب، كونها تتشكل عبر مراحل زمنية طويلة وتتوارثها الأجيال وتعتني بها بالإضافة والتجويد، ولا تخلو ثقافة من الثقافات من العلماء والمتخصصين في التراث الشعبي المعنوي والمادي الذين وهبوا حياتهم لجمع هذه الحكايات ودراستها وتحليلها والتعليق عليها.

يعد الراعي اللوثري والإثنوغرافي والأثري صامويل رويس رائدا للفلكلور السلوفاكي، وأبا للحكاية الشعبية السلوفاكية. عظم من شأن الحكاية الشعبية التي اعتبرها شهادة على أسلوب حياة القدماء السلوفاك. إنها ذاكرة مصونة تصور المفاهيم الدينية والأخلاقية، والمعتقدات والعادات وحياة الأسرة في العصور القديمة. كان رويس على قناعة بقيمة الثقافة السلوفاكية، واعتبر الحكايات الشعبية السلوفاكية مصدرا تاريخيا موثوقا به ويمكن البناء عليه.

أسس رويس المكتبة السلوفاكية في 1822 في ريفوكا، ونتيجة لدراساته في “يينا” أجرى أبحاثا مكثفة في التاريخ وعلم الآثار والإثنوغرافيا والحكايات الشعبية السلوفاكية وعلوم المعادن والطيور، بالإضافة إلى الموضوعات الكنسية، نشرت مؤلفاته بالسلوفاكية والألمانية والهنغارية. بدأ مع أبنائه الثلاثة في جمع منظم للحكايات الشعبية السلوفاكية، وقام بمراجعتها وكتب عن مكوناتها، حاول فهم عصور ما قبل التاريخ السلوفاكي من خلال الحكايات الشعبية، وكان أول من فعل ذلك في سلوفاكيا.

السلاف الأصليون

قام رويس عام 1840 بجمع الحكايات الشعبية من على ألسنة الناس، وجمعها في ثلاثة مجلدات ظلت حبيسة الأدراج، لتصدر لأول مرة بعد أكثر من 170 عاما على جمعها في دار نشر تاتران السلوفاكية عام 2018 في صورتها الأولى دون أي تعديل بالحذف أو الإضافة، وأخيرا بالتعاون بين دار نشر تاتران ودار نشر الترجمان بدأ أستاذ اللغة التشيكية والترجمة بكلية الألسن جامعة عين شمس خالد البلتاجي بترجمة الحكايات، حيث صدر جزؤها الأول “حكايات شعبية من التراث السلوفاكي”.

يقول البلتاجي إن رويس علق على كل حكاية بتحليل يعكس أفكار ذلك العهد الذي كتبت فيه هذه الحكايات التي تعتبر رسول الحب والخير، فلا يمكن تخيل حياة البشر دون النهاية السعيدة كما تصورها الحكاية الشعبية طالما رفضنا الاستسلام للعدم والتيه. إنها تراث إنساني يعلي من القيم السامية، ويدعم الخير والعدل والحب في مواجهة الشر والظلم والكراهية. هذه الحكايات الشعبية لم تكتب لينام عليها الأطفال، بل ليسهر عليها الكبار.

عندما نقرأ هذه الحكايات القديمة علينا أن ننتبه جيدا إلى أنه ينبغي ألا تخيفنا أو تربكنا غرابة شكل الحكاية

أما الناشر السلوفاكي تاتران فيرى أن رويس حاول أثناء رسم معنى الحكايات تحديد صفة المكان الذي دارت فيه الحكاية “حسب ظنه”، هدفه هو الإشارة إلى أن هذه الحكايات “حدثت” في الأراضي السلوفاكية، ذكر أسماء أنهار تمر بالأراضي السلوفاكية، مقاطعات وعروش “سلوفاكية من العصر الوسيط”، تحدث عن مهن تقليدية في مناطق بعينها، ومنتجات صناعية وأنشطة زراعية، بهذا حاول إثبات أن القصص الواردة في الحكايات التي يرددها السلوفاك حدثت قديما بالفعل على أراضي سلوفاكيا الحالية، لذلك هي حكايات ذات أصل سلوفاكي. ليس هذا فحسب، فقد حدد رويس مكان الحكايات في الحيز الجغرافي لسلوفاكيا الحالية من أجل أن يضع أحداث الحكاية لاحقا في مكان يخص شعبا بعينه، وهو الشعب السلوفاكي، فعلها من أجل أن يبرز صفات بعينها تخص الشعب السلوفاكي.

 “بطلنا المغامر” – هكذا يصف دراهومير ـ يجوب العالم البعيد كما يفعل اليوم مواطنو أزفولان ونيرتا وأورافا وليبتوف، شأن السلاف الذين يقطعون المئات من الأميال، ويطرقون منازل الأمم الأخرى مسلحين بالشجاعة والحكمة، يعولون على قواهم البدنية والعقلية، هكذا انطلق الفارس دراهومير في رحلته مع بعض الأموال، وعلى ظهر حصانه – وهذا أمر تقليدي عند السلاف – عند أي رحلة إلى العالم الفسيح.

ويقول “نرى هنا الحجة الأساسية لاستدلالات رويس: يبحث في الحكايات عن كل ما هو تقليدي ـ حسب رأيه ـ عند القدماء السلوفاك، فما كان مميزا لهم في الماضي مميز للسلوفاك في العصر الحاضر” أي سلوفاك العصر الذي عاش فيه الأديب. آمن رويس بأن طبيعة السلوفاك دائمة لا تتبدل، لذلك نقل كل ما رآه سمة أساسية لتصرفاتهم وعاداتهم من الماضي إلى حاضرهم، ووسم به معاصريه، واعتبره صفة تقليدية دائمة إيجابية، وذات طابع قومي، استثنى منها بعضها في مواضع نادرة.

لا يمكن تخيل حياة البشر دون النهاية السعيدة كما تصورها الحكاية الشعبية طالما رفضنا الاستسلام للعدم والتيه

أما رويس فكتب في مقدمته مؤكدا أن “هذه الحكايات الشعبية السلوفاكية القديمة قادمة من وديان جبال فاترا، موطن السلاف الأصليين، وهي المنطقة التي استطاعت الحفاظ على الحكايات الشعبية القديمة، ونقلها إلى الأحفاد. ومازال مواطنو منطقة أزفولان، وبخاصة سكان المناطق الجبلية الريفية منها، يتمسكون حتى اليوم ببساطة العادات والتقاليد، وقد خلت لغتهم من أي تأثير للغة المجرية أو الألمانية عليها، ولا تزال ثياب الفتيات السلافيات تحتفظ بنفس بهائها القديم. حافظ الرجل السلافي هناك على بشاشة وجهه ورحابة صدره، وحبه للغناء والرقص، وتعلقه بالعمل الدؤوب شأن نهر هرون الذي يسكن على ضفتيه، بأمواجه البراقة الصافية”.

وأضاف “جاء الرومان إلى هنا ربما إبان حكم الإمبراطور مكسيموس، حيث عُثر أكثر من مرة عن عملة تحمل اسمه بالقرب من مدينة مازيبرود، وياسينوفا، ولوتشاتين. عثر أيضا قبل ما يقرب من ثلاثين عاما في محيط قرية ياسانوفا على شبكة كبيرة من القنوات المقنطرة تحت الأرض استخدمها هذا الشعب النهم في امتلاك الأموال لتنقية الذهب. لكن الرومان الذين اعتادوا الطقس الحار لم يولوا اهتماما كبيرا بآبائنا البرابرة، ولم يتركوا لنا سوى عدة كلمات للذكرى، على سبيل المثال فيرونيكا، وهالينكا، وكوبا، وريجينا، وأوميجا. لم يكن تواجد الألمان في مقاطعة بانسكا بستريتسا كبيرا، فضلا عن أنهم انفصلوا كثيرا عن السلاف نظرا لتوجههم القومي، لذلك لم يؤثروا كثيرا في ذلك العرق السلافي. كانوا بمثابة رحّالة جاؤوا واستقروا هناك في حوالي عام 1310. وينطبق هذا على الألمان في مقاطعة ليوبتوفا”.

وتابع “تلك كانت بيئة مناسبة تماما للحفاظ على الموروثات الشعبية التي أعددتها لكم، وتداولوها فيما بينهم. تكمن طبيعتها التراثية في الواقع من بنائها الداخلي. لو ألقينا نظرة على اللغة البسيطة السلسة لتلك الحكايات الشعبية، وتصوير الأبطال على نحو موفق، والعرض العذب، والحفاظ على الفكرة الرئيسية، وترتيب الحكايات الفرعية المنضبط فلن نشك في اكتمال أو دقة هذه الحكايات. إنها حكايات تحتوي على قيم أخلاقية سامية، لا يمكن أن ينكرها أي إنسان مهما كان فظا غليظا. هي حكايات تليق تماما بأن تحفزنا نحو الشجاعة، والحكمة، والحياة الصالحة”.

خيال مبالغ فيه

تا

يرى رويس أن هذه الحكايات الشعبية تتوافق تماما مع التصورات الخرافية التي آمن بها أجدادنا الذين حفظوا لنا التاريخ التشيكي والبولندي واللوستي، على سبيل المثال. الأرواح الخيرة والشريرة، والوحوش ذات الرؤوس المتعددة، والقلاع المسحورة المدمرة، والساحرات، والشياطين، والأدوية السحرية، وحتى المسحورون والممسوسون، كلها عناصر توطنت عندنا في أزمان ليبوشا وكروك، ومازالت قائمة حتى اليوم في ذاكرة السلاف.

ويبين أنه لو لدينا أي معلومات عن تاريخ بانونيا منذ عام 800 إلى عام 1200 ميلادي، وهي الفترة التي تعود إليها هذه الحكايات الشعبية، لتشكلت لدينا فكرة واضحة عن تلك الأعمال القديمة. لكن، لسوء الحظ، لم تصلنا أي آثار عن تاريخ تلك الحقبة التاريخية. نرى زمان الحروب، وقلاعا مدمرة، وملوكا منفيين مضطهدين، وأعدادا غفيرة من الساحرات، والسحرة الذين يدمرون الأرض، ويفترسون البشر، ويضطهدون الأسر، ويحقرون من شأنها في كل مكان، ولم ينج منها سوى القليل الذي ينعم بحياة مترفة، أو تحت حماية الأرواح الخيرة.

ويشير إلى أن التاريخ طالما صامت بهذا الخصوص فلا أمل في العثور على سند تاريخي لما بقي من ذلك العالم القديم، ويوما ما سنضطر إلى التخلي عنه إلى الأبد. أيتضح من هذا أن هذه الحكايات الشعبية التي تناقلها الناس على مدى قرون، وانتقلت من الابن إلى الحفيد هي حكايات مزيفة، أو شوهتها الإضافات؟ كلما غصنا في الأزمنة الفائتة تراجعت احتمالية وجود زيادات أو تزييف. فلطالما كانت ميراث الوطن الذي لا يجوز تعديله، وكان يشترط في الراوي أن يكون قوي الذاكرة، ينتبه إلى أي تعديل في الحكاية كلما سمع أحد المستمعين يزجره بقوة، ويقول له “هراء، ما تقوله محض هراء”.

 إن هذه الحكايات الشعبية حكيت، ومازالت تُحكى حتى اليوم في التجمعات الكبيرة، ودائما ما وجدت وسط المستمعين من يصلح خطأ راو متهاون أو متحدث مستخف. إن حياة أجدادنا البسيطة كانت صالحة للحفاظ الأمين على هذه الحكايات الشعبية، فلم يكونوا عرضة لمؤثرات أسلوب حياة مؤلم ومصطنع كحالنا اليوم. العصر الحديث يختلف تماما عن العصر القديم، فلم يكونوا معنيين برصافة النص الأصلي كثيرا، لكن الناقد لن يجتهد كثيرا كي يتعرف على تلك الزيادات، ويحددها. على سبيل المثال: حمل البندقية بدلا من حمل القوس، أو أشعل الغليون، إلى آخره. كذلك نجد في هذه الحكايات الشعبية القديمة إشارات قديمة إلى مفاهيم عتيقة عن الدين، والبلاد، والأخلاق، والتحيزات، والخرافات، والعادات والتقاليد، وحياة الأسرة، والزراعة، والفن. سنجد فيها باختصار تفاصيل عن حياة أجدادنا.

Thumbnail

ويقول رويس “عندما نقرأ هذه الحكايات القديمة علينا أن ننتبه جيدا إلى هذه الفكرة: ينبغي ألا تخيفنا أو تربكنا غرابة شكل الحكاية، والخيال المبالغ فيها، وسمات المبالغة والخروج عن المألوف في تصوير شخصوها. كثير من المتعة، والسعادة والفائدة نجدها في التصوير البسيط للأخلاق والتأملات التي تضمها حكاياتنا الشعبية أكثر من الوقائع المملة لرهبان العصر الوسيط، وسجلاتهم التي يعلوها الغبار. نحن السلاف، لدينا نصيب كبير من حياة أجدادنا. أجدادنا يعيشون في داخلنا – ترتبط حياتهم برباط أبدي وثيق بأسلوب تفكيرنا، وأفعالنا من خلال قوانين ثابتة لا تتبدد. العصر القديم يعني لنا ضوءا مشتعلا في أنفسنا بالحب للوطن، ضوءا ناعما ينتشر ويدفئ حياتنا، ومشاعرنا وأفعالنا. هدفي الحالي هو الامتثال لها، للواجب السلافي من هذا المنظور”.

وتابع “لكن قبل أن أشرع في تقديم هذا الواجب لابد من أن أكتب شيئا عن اللهجات المحلية التي كُتبت بها الحكايات. هذه اللهجات المحلية غريبة، وغير مفهومة، وتستدعي مشاعر غير طيبة عند كل من امتثل لطبيعة العصر الحالي، وتجعلهم يتساءلون: لم يفسدون علينا حياتنا في كل خطوة بمثل هذه التفاهات؟ ألا يكفيهم ما يفعله بنا برنولاك، وهولاي، ومناصروهما، وكذلك كولار، وجودرا أم أنه لا داعي للخوف من أن يأتينا سلاف جرمانيا وليبتوف، وسبيش، وغيرهم بهراء مماثل، أم أننا ضقنا ذرعا بلهجات الإيليريينوالتشيك، والسلوفانيين، والوستيين، والبولنديين، والروس إلخ، أم أن سلاف مملكة المجر يريدون المزيد من الشرور؟”.

وأضاف “إجابتي على كل هذه التساؤلات هي أني سأعرض هذه الآثار هنا كما وجدتها. ولا يمكن تطويع الآثار لظروف العصر الحديث. كيف هو الحال لو أراد أحدهم أن يقدم للعالم الأدبي ‘كلمة عن العميد إيجور’، أو ‘أغنية عن نيبيلاجين’ وترجمها إلى لهجته المحلية؟ ألن يكون هذا وكأن الدكتاتور كاميلوس قد ارتدى حلة نمساوية حديثة، وصار محط أنظار الرعاع؟ هل يجوز أن نصنع سلاحا جديدا من سلاح قديم صدئ ونعتبره نسخة قديمة؟ كلا، سأقدم لكم آثارنا القديمة على حالتها التي وجدتها عليها. وليباشر المؤرخون والفلاسفة فحص المادة التي نقدمها لهم قدر استطاعتهم”.

13