بعد قرن كامل ما تزال آراء محمد كامل حجاج ضرورية للموسيقيين العرب

العرب عرفوا النوتة الموسيقية في القرن السابع الميلادي.
الأربعاء 2023/05/24
العربي موسيقي بفطرته (لوحة للفنان تحسين الزيدي)

إذا تصفحنا التاريخ سنجد الموسيقى في كل العصور والتجمعات البشرية. وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع على آلة موسيقية تسمى “هارب” وجدت في بلاد الكلدانيين، وعثر عليها سرزيك في قصر “تللو” على الشاطئ الأيسر من قناة تربط نهر دجلة بالفرات. وقد قرر تاريخها العلماء أمثال بواتييه بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا جدل في أن الموسيقى أقدم من الشعر، وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.

يتناول كتاب “الموسيقى الشرقية: ماضيها، حاضرها، نموها في المستقبل” الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1924 للمؤرخ الموسيقي محمد كامل حجاج، وأعادت طباعته أخيرا مؤسسة هنداوي، تاريخ الموسيقى الشرقية وتدرجها، وتطورها منذ ظهورها حتى أوائل القرن العشرين.

 وينطلق المؤلف من نشأة الموسيقى العربية ومرورا بنواة النهضة الموسيقية العربية والعصر المزهر لها، والموسيقى العربية في الأندلس، والموسيقى الفارسية، والموسيقى في عهد المماليك، والموسيقى الشرقية في تركيا، وانتهاء بالموسيقى من عهد محمد علي باشا إلى عام صدور الكتاب.

ازدهار الموسيقى العربية

قال حجاج “تنشأ الموسيقى مع العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي؛ إذ الإنسان مطبوع بفطرته أن يبحث أولا عن ضرورياته، ثم عن حاجياته التي هي أهون من الضروريات، فإذا خلا باله، واطمأن ضميره؛ تفنن في الكماليات والملذات، وأفضلها عند جميع الأمم الموسيقى”.

وأضاف أن الموسيقى “نشأت وأزهرت في بلاد فارس قبل ظهورها في بلاد العرب بقرون، فاهتم بها الأكاسرة، وأحلوها المحل الأرفع، ودونوا أصولها وقواعدها وقوانينها حتى أصبحت منبعا سائغا نهل من موارده الشرق بأجمعه. وأما العرب فظهر عندهم أولا الشعر؛ يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسبٍ بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بمعنى يؤديه، لا ينعطف على الآخر، ويسمونه بالبيت. فترى الشعر العربي في وزنه وانسجامه، وحركاته وسكناته المعدودة، وقوافيه المتحدة الرنانة موسيقيا بمعنى الكلمة، لا يحتاج من يريد أن يلحنه إلى مجهود عظيم. وهذه المزايا لا توجد في الشعر الأجنبي، وتدل على أن العربي موسيقي بطبيعته وفطرته”.

في عصر بني أمية ازدهرت الموسيقى، أما في عصر العباسيين فقد أخذت تخطو خطوات واسعة نحو التقدم

وأضاف “ابتدأت الموسيقى العربية بالحداء، إذ تغنى الحداة منهم لإبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا، وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، وكانوا يسمونه بالسناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم. وكانوا يسمون هذا الهزج. وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصناعات”.

وتابع “لم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم حتى جاء الإسلام، وفتحوا الفتوحات، واستولوا على الممالك، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه، بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستملاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم”.

أكد حجاج أن العرب تركوا ميراثا عظيما من الألحان والموشحات، ولكنه لا يساوي شيئا؛ لأنهم لم يدونوا تلحينهم، بل كانوا يتناقلون ألحانها بالسماع والتواتر. وقد أثبت الأصبهاني في كتابه الأغاني ألوفا مؤلفة من الألحان، ووضح المقامات والضروب التي لحنت منها. لكن هذا لم يكن كافيا، وأصبح هذا العدد الضخم أمام أعيننا كهياكل عظمية لا نستدل على شيء من حسن موسيقاها، ودقة صناعتها.

وأوضح “ظهرت ‘النوتة’ العربية متأخرة في القرن السابع تقريبا، وهو العصر الذي وجد فيه عبدالمؤمن البغدادي؛ لأنه مات سنة 656 هجرية. وهو أقدم من ذكر هذه الرموز. وقد رد إسكندر أفندي شلفون على المسيو روانيه صاحب الرسالة الخاصة بالموسيقى العربية في دائرة معارف المسيو لافنياك، الذي يشك في النوتة العربية؛ لأنه لم يعترف بها غير المسيو د. ج. ا. كونديه، والمسيو سوريانو فويرتيس؛ إذ قال الأخير في كتابه ‘الموسيقى العربية الأندلسية’، الذي ظهر في برشلونة – إسبانيا سنة 1852: إن العرب قبل فتحهم لإسبانيا قد استعملوا الأحرف السبعة الأولى من حروفهم الهجائية، والألوان السبعة التي كانت تميز طول أو قصر الزمن للنوتات كاستعمال الأشكال السبعة المستعملة الآن في النوتة العصرية”.

وأضاف “هذه العلامات كانت توضع على الأبعاد السبعة الموجودة على الخطوط الثمانية الأفقية، فكان الأسفل منها يدل على صوت ‘ألف’، التي كانت أضخم قرارات طريقتهم، وباتباع هذا الترتيب كان الصوت الأحد ‘أعلى الجواب’ يشغل البعد الأخير من الخطوط. وكان اللون الأصفر حينما يوضع على أي خط من الخطوط الثمانية يدل على أن البعد الذي فوقه مباشرة يساوي العلامة ‘دال’، وأن الوردي الرائق يساوي ‘الألف’ الحادة ‘ألف الجواب'”.

g

وتابع “بخلاف الألوان السبعة التي كانت تدل على المقدار الثابت للأصوات، كان العرب يستعملون بعض علامات تدل على زمنها المطلق على حسب ما يراد توقيعها بسرعة كطريقة مجموعاتنا الثنائية أو الثلاثية أو أكثر من نوتاتنا المستعملة في الحلية والمسماة appogiatures وهذه الشرطات سواء أكانت صاعدة أم هابطة تدون بعلامة فاصلة تخترق أبعاد الخطوط، أو ترتكز على الخطوط. ويؤكد المسيو سوريانو دون أن يأتي لنا بدليل ما، سواء أكانوا استعاروا هذه الطريقة من اليونان قبل فتح الأندلس، أو في عهد الفتح ودونوا نوتة لموسيقاهم الثمانية الخطوط، التي ابتدعها الإسبانيون باستعمالهم الأشكال البيضاوية المسماة بركوس أو بركيوس، التي كان يستعملها الملحنون من القرن الـ15 إلى الـ17”.

 وذكر أن هذا المؤلف قد استنتج دون إثبات أن العرب في الأندلس كانوا يستعملون في الوقت نفسه الأرموني بعكس عرب الشرق، ولعل المسيو روانيه لم يستدل في أبحاثه على دليل قاطع يثبت ذلك، وقد قرأ كل مؤلف في الموسيقى العربية من صدر الإسلام إلى الآن، حتى المؤلفات المصرية ككتاب “الموسيقى الشرقية” لكامل أفندي الخلعي، وكتب الديك ودرويش أفندي وغيرها. ويستنتج من ذلك أن النوتة العربية، سواء أصح خبرها أم لم يصح، لم تظهر قبل القرن السابع؛ أي بعد العصرين الزاهرين؛ وهما الأموي والعباسي.

وبيّن حجاج أنه في عصر بني أمية ازدهرت الموسيقى، وخطا الفن خطوات واسعة نحو التقدم والجمال، وظهر في وقت واحد فحول المغنين والملحنين؛ مثل ابن سريج، ومعبد، والغريض، وابن محرز، ومالك، وحنين الحيري، وابن عائشة، وعزة الميلاء، وجميلة وغيرهم. أما في عصر العباسيين فقد أخذت الموسيقى تخطو خطوات واسعة نحو التقدم، وتتطور إلى الكمال، حتى جاء إسحاق الموصلي فأبلغها ذروة الكمال، وزاد المقامات، وأوجد الطرائق الجديدة للضرب، ونوع في مجرى الأصابع وأنشأ المذهب الحديث l’ecole romantique حتى أصبح له مبتدعا وزعيما، وكان له الفضل العظيم في نشر الموسيقى لاسيما بين القيان؛ إذ كان بيته يحوي دائما ثمانين قينة ممن يرسلهن مواليهن للتعليم.

ولفت إلى أنه عندما فتح العرب الأندلس والبرتغال، وتوغلوا في فرنسا إلى بواتييه، وكانت أوروبا تتخبط في غياهب الجهل، فما لبثوا أن أضاءت شموس معارفهم ومدنيتهم، فأزهرت في الأندلس الآداب والفلسفة والطب والزراعة والرياضيات، وفن العمارة والزخرفة والموسيقى، وعلم النبات والتاريخ والفلك وغيرها. وكانت حلقات دروس الفيلسوف ابن رشد يؤمّها الألوف من الإفرنج، وكانوا وقتئذ يتهافتون على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم علوم العرب وفنونهم. وما فتئت آثارهم الفنية التي بلغت المثل الأعلى من جمال الفن العربي ناطقة بفضلهم.

وتابع “سمت الموسيقى بدورها في الأندلس إلى أوج العلا كباقي الفنون، فابتدعوا الموشحات الأندلسية التي انتقلت من الأندلس إلى المغرب، ثم سارت إلى مصر فالشام فالعراق والعرب. واشتهر زرياب بقرطبة حتى سحب ذيل النسيان على من سبقه بالأندلس من المغنين المجيدين؛ مثل علون وزرقون، والقيان الشهيرات؛ مثل فضل وعلم وقلم. وأصبحت إشبيلية أعظم مركز موسيقي في الأندلس، كما أشار إلى ذلك ابن رشد وابن خلدون؛ إذ قال الأخير: ‘حينما كان يموت عالم في إشبيلية ويراد أن تباع كتبه بثمن عظيم ترسل إلى قرطبة، وإن مات موسيقي في عاصمة الأندلس كانوا يرسلون آلاته الموسيقية ومخطوطاته إلى إشبيلية التي نمت فيها الموسيقى، وولع بها أهلها أشد الولع'”.

تطوير الموسيقى

Thumbnail

عن الموسيقى من عهد محمد علي باشا إلى وقت صدور الكتاب قال حجاج “ابتدأت الموسيقى ترتقي في عهد محمد علي باشا، واشتهر بها في عصره محمد أفندي المقدم المغني، أستاذ عبده الحامولي، وساكنة المغنية، وكانت ذات صوت رخيم فتان، وقد أنعم عليها محمد علي باشا بنيشان، وعاشت إلى عهد إسماعيل باشا. وقد اشتهر من الموقعين في ذلك العهد محمد أفندي القباني، كبير الملحنين عند محمد علي باشا، وخطاب أفندي القانوني، ومصطفى أفندي العقاد القانوني، وهو والد محمد أفندي العقاد القانوني المعروف، وكان حافظا لكثير من الموشحات والأدوار العظيمة. ومن مشاهير حفاظ الموشحات والأدوار القديمة الشيخ محمد الشبشيري، شهير زمانه بـ’طنطا’، الذي أخذ عنه المرحوم عبده أفندي الحامولي كثيرا من طرق الإبداع والإتقان والتلاعب بالنغمات، وأحمد أفندي الياسرجي، مطرب الإسكندرية الشهير، والأستاذ الأكبر للمرحوم الشيخ سلامة حجازي، والمرحوم الشيخ محمد الشلشلموني بالقاهرة، وكان حجة الفن ومرجع أهله”.

وتابع “هؤلاء هم رجال الطبقة القديمة، وهي الطبقة الأولى. أما الطبقة الثانية، فتتكون من محمد أفندي الخضراوي، أستاذ المرحوم محمد أفندي عثمان، والشيخ محمد عبدالرحيم، الشهير بالمسلوب، وقد لحن عدة أدوار وطرائق للذكر معروفة طار بها ذكره، والشيخ محمد المغربي، القاطن بجهة سيدنا الحسين، ومبدع تلحين طرق المولد النبوي الشريف على ما هو مألوف الآن بعد المرحوم الشيخ حسن الآلاتي أول مبتكر لها، والشيخ عمر، القاطن بجهة المغربلين بمصر القاهرة، وحافظ الموشحات القديمة والقارئ والمنشد الشهير. ومن الخديوي إسماعيل باشا على الموسيقى أنه أحضر من الأستانة جوقا تركيا ‘تختا’، تلقى عنه مشاهير الفن بعض التلاحين والبشروات ‘البشارف’، ومن هؤلاء: المرحوم عبده أفندي الحامولي، ومحمد أفندي العقاد، والمرحوم أحمد أفندي الليثي، والمرحوم إبراهيم أفندي سهلون، وأمين أفندي بزري”.

أهم الوسائل لترقية موسيقانا هي ترك التعصب، مع التساهل قليلا في رفع الحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى نوفق بينهما

وخلص حجاج إلى أن أهم الوسائل لترقية موسيقانا هي ترك التعصب، مع التساهل قليلا في رفع الحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى نوفق بينهما، وهذا ليس بالعسير إذا درسنا السولفيج والأرموني والكونتربوان وفن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية والموسيقى الشرقية.

وأهم العقبات في رأيه هو ربع الصوت والمقامات التي لا تنطوي تحت الجام ماجور والجام مينور، وهذه يمكن الاستغناء عنها والاستعاضة بغيرها من المقامات العديدة حينما نريد. وأن ينشأ الموسِيقي الشرقي نشأة تماثل الغربي من حيث الفضل والرقي، وأن نستعمل جميع الآلات الإفرنجية وندرسها، وأن نستعمل كل أصوات الرجال والنساء المستعملة عند الإفرنج، وأن ندرس الآلات الإفرنجية كلها لنأخذ ما يلزمنا لتكوين الأوركستر الحديث.

والموسيقى المسرحية هي التي تضطرنا إلى جميع هذه المشروعات؛ لنستطيع أن ننشئ الأوبرا العربية بكل معنى الكلمة، وأن ندرس الموسيقى السيمفونية التي هي معدومة عندنا بالمرة. ويمكننا الاحتفاظ بالآلات الشرقية للبشارف والسماعيات والموشحات والأدوار والطقاطيق وغيرها.

13