السوري نذير جعفر لـ"العرب": الكتابة فعل حياة ودفاع عن الذات والآخر

هناك من الكتاب السوريين من خير البقاء في بلاده رغم الظروف الصعبة التي تعيشها بعد سنوات الحرب، ومن هؤلاء الروائي والناقد السوري نذير جعفر، الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار لنتعرف على ملامح الكتابة الروائية والنقدية في سوريا وعلى تكوينه المعرفي والثقافي ورؤاه وأفكاره في مجمل المشهد السوري.
يعرف الروائي والناقد السوري نذير جعفر مثابرا ناجحا في حضوره الاجتماعي والأدبي، وكاتبا وطنيا وقوميا بامتياز. شكلت سوريا بالنسبة إليه محور اهتمامه وبوصلة الرؤية والتفكير العقلاني كما كانت وما زالت مصر النصف الآخر من قلبه، وفلسطين البوصلة ونقطة الارتكاز، وقضايا التحرر العالمي هاجسه الفكري.
لم يهادن في رؤيته للحرب فأعلن موقفه بأن ما يجري في سوريا ليس بريئا، إنما يستغل الثغرات والسلبيات ويتسلل من خلالها لضربها وتغيير خياراتها السياسية وتحالفاتها ومواقفها، خاصة حينما رأى بعينيه المسلحين ينشرون الرعب في الشوارع ويوزعون المنشورات التي تكشف ماهيتهم وارتباطهم بالخارج.
صدرت لجعفر روايتان “تحت سقف واطئ” و”أساور الورد” وعشرة كتب في النقد والدراسات، هي: “رواية القارئ”، “مرايا التلقي”، “حنا مينه حارس الشقاء والأمل”، “ملامح من المشهد القصصي والروائي في الكويت”، “الرواية والتأويل”، “بنية الخطاب السردي”، “عوالم روائية، والدخيل والأثيل في شعر أمية بن أبي الصلت”، “قالت الحرب”، و”رياض الصالح الحسين أيها اليمام الأليف” (رواية لليافعين).
يقول جعفر “البداية كانت من هناك، من بيت جدتي، حيث كانت في إحدى زواياه خزانة مغلقة لا أحد يعرف ما بداخلها، وكانت الجدة تحذرني – وأنا صبي صغير – من فتحها أو الاقتراب منها، مما كان يزيد فضولي وشغفي لمعرفة ما فيها، وحدث أن استغليت غيابها في أحد الأيام وظللت أعبث ببابها الخشبي الصغير حتى فتح، وفيها عثرت على كنزي المخبأ. كان مجموعة من الكتب القديمة التي علاها الغبار وأذكر منها ‘السيرة النبوية’، و’ألف ليلة وليلة’، و’حمزة البهلوان’، و’سيف بن ذي يزن’، و’نهج البلاغة’، وديوان بالخط الكوفي المزهر للمكزون السنجاري، و’المعلقات السبع’، وسواها مما لم أعد أذكره الآن".
ويضيف "من هناك بدأ تعلقي بالكتب وقراءة القصص، الذي تعزز عبر حكايات أمي في ليالي الشتاء الباردة، وعبر ترددي المتواصل على مكتبة المركز الثقافي في مدينة الحسكة بعد سفرنا إليها وإقامتنا الطويلة فيها قرأت معظم الكتب فيها. ومن الحسكة، وفي المرحلة الثانوية بدأت نشاطي الأدبي كاتبا للقصة القصيرة، فأحييت أمسيات عدة مشتركة، إلى أن انتقلت إلى جامعة حلب فشاركت في ملتقياتها الأدبية في السبعينات وبدأت النشر في الصحف السورية، فكانت أول قصة تنشرها لي جريدة ‘جيل الثورة’ بعنوان 'العرس' عام 1977".
النقد والإبداع
يؤكد نذير جعفر أن الرواية العربية تشهد الآن طفرة نوعية على مستوى النتاج والتلقي من القراء والنقاد معا. فاتساع رقعة الممنوعات، وانكسار الأحلام، يولدان الحاجة إلى التعبير والرفض والاحتجاج. ولعل الرواية هي الجنس الأدبي الذي يتسع لكل أشكال التعبير غير المباشر، كما يمكنه استخدام كل التقنيات والأساليب الفنية التي تمكنه من الوصول إلى المتلقي. وهي ليست مرشحة للتعبير عن أزمة الإنسان العربي فحسب، بل للتبشير أيضا بعصر جديد.
ويضيف “في مجتمعات لا يمكن للمسرح، كفن جماعي تواصلي أن يزدهر فيها، كما لا يمكن للثقافة البصرية (التشكيل، النحت، الباليه) بوصفها فنونا أرستقراطية، أن تلقى الاهتمام، نجد هذا الانصراف إلى الرواية، لأنها عمل فردي بامتياز أولا، ولأنها تغذي السينما والدراما التي تجد من يمولها ويسوقها ثانيا، ولأنها الفن الذي يستوعب كل النبرات والاتجاهات الاجتماعية والأيديولوجية ويوظف كل الفنون في بنيته ثالثا. وهذا الازدهار على مستوى الكم والنوع لا يعني موت الشعر كما يروج بعض النقاد وإنما يعني اشتداد عزلته في ظل العولمة المتوحشة التي تسلّع الإنسان والفن، وتضعهما في باب المضاربات والأسهم والعرض والطلب”.
ويشدد جعفر على أن الكتابة فعل حياة، ودفاع عن الذات وعن الآخر، ورحلة تتقصى دواخل النفس وتجلياتها في الفرح والحزن، واليأس والرجاء. لذا فهو يكتب، ويكتب في الوقت الذي تختمر فيه بعقله ووجدانه فكرة ما وتلح عليه فلا يكون أمامه مهرب من تفريغ شحنتها على الورق. أو حين يقرأ كتابا من أي نوع كان ويحفزه للحوار معه والكتابة عنه. أما أنه يكتب ليمارس سلطة من نوع ما على الآخرين فليس لديه مثل هذا الهاجس، إذ أنه يعد النقد حوارا لا حكما على العمل، كما يعد الكتابة الإبداعية تواصلا مع الآخرين لا استقطابا لهم وتسلطا عليهم.
وحول تجاوزه المحظور في روايتيه “تحت سقف واطئ”، و”أساور الورد” يقول “لم يكن هاجسي في الروايتين تصوير الصراع السياسي والدموي الذي شهدته مدينة حلب في ثمانينات القرن الماضي، بل الدمار الروحي الذي لحق بجيل كامل من الشباب الجامعي المتحمس لقضاياه الوطنية نتيجة هذا الصراع. فقد عشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها وكنت في قلبها لا على هامشها، وشكلت لدي رصيدا وتجربة حياتية عميقة، ولأنني كنت مشحونا بها، ولدي ما أقوله فقد كتبت هذين الروايتين، مستعيدا ما تركته تلك التجربة في نفسي ورؤيتي عبر علاقتي بمجموعة شبابية من الشعراء والمثقفين الحالمين والمتمردين الذين انتهى بعضهم إلى السجن أو المنفى وتابع بعضهم الآخر حياته منكسرا وحزينا ووحيدا إلى حد الموت”.
ويضيف “تلك المرحلة ما زالت خطا أحمر، لكنني تجرأت على اقتحامها بروايتي غير آبه بمنعهما من النشر أو التداول، وقد سمحت الرقابة بهما ربما لأنهما حاولتا ألا تنتصرا لطرف على حساب الآخر، بل هما تنتصران للوطن أولا وأخيرا وتقولان الحقيقة بقالب فني بعيد عن المباشرة السياسية أو الدعاية الأيديولوجية”.
ويرى أنه ليس للثقافة أو للنقد جنسية محددة، ولكن لهما خصائص أو سمات تطبعهما بطابع البلد أو المجتمع الذي تنتميان إليه. فالثقافة الإنسانية واحدة، ونحن نقرأ ونتأثر بالمسرح اليوناني كما نتأثر بالرواية الروسية والشعر الفرنسي. وفي السياق ذاته ليس هناك من نظرية نقدية فرنسية أو ألمانية أو روسية أو عربية، إنما هناك نظريات ومدارس واتجاهات نقدية في العالم تحمل بعض خصائص ثقافة بلدانها.
◙ النقد الأدبي حوار مع العمل لا حكما عليه والكتابة الإبداعية تواصل مع الآخرين لا استقطابا لهم وتسلطا عليهم
ويتابع “إذا كانت النظريات في مجال العلم التجريبي تلغي إحداها الأخرى فإن العلوم الإنسانية ومنها النقد لا تدير ظهرها للموروث بوصفه تراكمات كمية يلغي جديدها قديمها، بل تظل على اتصال بهذا الماضي بقدر ما تحقق انفصالها عنه أيضا. ومن هنا، فإن الاتجاهات النقدية الحديثة ما زالت تستظل، على تعددها، بإنجازات علم الجمال الذي يندرج بدوره تحت لوائي النزعة المثالية أو المادية في الفلسفة. وأي محاولة لمعرفة ما تقدمه من إضافات نوعية، ستظل قاصرة ما لم تتتبع تطور الفكر الجمالي عبر مدارسه وأعلامه منذ أفلاطون وأرسطو مرورا بالجاحظ والجرجاني وابن خلدون وكروتشه وكانط وصولا إلى بارت وجاكبسون وجينيت ودريدا وغيرهم”.
وفي ما يتعلق بجمعه بين كتابة الرواية والنقد، يوضح جعفر “لم يكن لدي مشروع نقدي خاص في البداية، لكن هذا المشروع بدأ يتكون عندما وجدت أن النقد لا يقتصر على التمييز بين الجيد والرديء، أو على التفسير والتحليل والحكم، كما هو شائع، بل هو وعي فلسفي للعصر وموقف من الإنسان والتاريخ والكون، عبر منظومة فكرية جمالية متكاملة، يتحاور الناقد على ضوئها مع النصوص الأدبية ويحاول أن يكشف عن أنساقها الجمالية ويستبطن أعماقها ودلالتها ورسالتها. وإذا كنتُ قد تأثرت بالبنيوية التكوينية ثم بالتفكيكية إلى حد ما، فإني لا أحاكي هذه الاتجاهات، بقدر ما أتفاعل معها وأتمثل إنجازها”.
ويتابع “رؤيتي النقدية تقوم على النظر إلى ‘النص، المؤلف، السياق الاجتماعي التاريخي، القارئ’، بوصفهم أربعة أطراف تتشارك وتتفاعل في توليد فحوى ومغزى العمل الإبداعي. وقد استأثر السرد باهتمامي في المقام الأول لأنني ابن بيئة وثقافة شفوية سردية مشبعة بحكايات الشطار والجن والسحرة التي ألهبت مخيلتي. ثم إني بدأت وما زلت أكتب القصة، وأحاول أن أجمع بين مخيلة المبدع وإحساسه وذائقته وعقلانية الناقد في كل ما كتبته من قراءات ودراسات نقدية. ولأنني أنطلق من منظومة فكرية جمالية متكاملة فقد ساعدني ذلك على مقاربة بعض الأعمال الشعرية وبعض الأعمال التشكيلية أيضا، لكن الرواية الآن تكاد تستحوذ على مجمل نشاطي ونتاجي النقدي والإبداعي”.
ويلفت إلى إن “النقد والإبداع فعاليتان جماليتان، وإن اختلفت طرق كل منهما. وليس من سور صيني بينهما، لذلك لا غرابة في تحول الناقد إلى مبدع. فقد عرف الأدب العربي طه حسين ناقدا ومبدعا، والعقاد والمازني كذلك. كما عرف في الوقت الراهن نبيل سليمان، وواسيني الأعرج، وحميد لحمداني، وعددا كبيرا من النقاد الذين يكتبون الرواية إلى جانب دراساتهم النظرية والتطبيقية للأدب. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام إلى أي حد استطاع هؤلاء النقاد أن يكونوا مبدعين أيضا؟”.
سوريا ومصر
أما عن رؤيته لسوريا باعتبارها ساحة حرب منذ سنوات، كيف يراها وإلى أين انتهت الأوضاع فيها اليوم، فيقول جعفر “لقد قلت منذ البدايات ليس في سوريا حرب أهلية ولا إثنية ولا طائفية، بل حرب تم التخطيط والإعداد لها قبل اندلاع الربيع الأسود في الخامس عشر من مارس 2011، هذا الربيع الذي أصرت قوى الإرهاب على تلوينه بدماء أبناء سوريا المدنيين الأبرياء بل دماء كل من يحب سوريا ويأتيها عاشقا أو زائرا، وما الدمار الذي طال سوريا في شتى المجالات سوى تأكيد على هوية هذا الربيع وصانعيه وأدواته في الداخل التي توجهها غرف عمليات الدول المتآمرة على وحدة شعب هذا لوطن وترابه”.
ويضيف “إن إصرار دوائر استعمار ما بعد الحداثة على وسم هذه الحرب العدوانية الظالمة بالحرب الأهلية ليس سوى تهربا من مسؤوليتها في إشعالها، موهمة العالم بأنها بريئة من الدماء التي يسفكها السوريون أنفسهم وما بينهم متناسية أن السوريين باتوا يعرفون تماما إن الآلاف من الإرهابيين الذين دفعت بهم إلى سوريا ليسوا من أبنائها ولا يمتون بصلة إلى ثقافتها ولا حضارتها، أما من التحق بهؤلاء الإرهابيين من السوريين عن وعي أو جهل أو ضلالة فقد انحسروا تماما، ومآل سوريا وأبنائها إلى النصر الأكيد”.
حول كتابه الأخير “قالت الحرب” الصادر مطلع العام 2023 عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، يكشف جعفر أنه “شهادات ونصوص تعكس مسارات الحرب وآثارها والتضحيات العظيمة التي بذلها السوريون كي يبقى وطنهم موحدا أرضا وشعبا في مواجهة مشروع التفتيت، الذي ساهمت فيه دول عدة بغية تحقيق مصالحها من جهة والهيمنة على مصادر الطاقة وممراتها من جهة ثانية، في سياق ما سمي ‘الشرق الأوسط الجديد’ الذي روجت له وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس”.
ويضيف “يغلب على هذه الشهادات والنصوص الطابع الأدبي الوجداني في مقاربة الحرب ومآسيها وما خلفته من حرائق في العمران والطبيعة والنفوس، راصدة معجزة الصمود والثبات على المبادئ، والحفاظ على الأمانة التي سلمها لنا أبطال الجلاء، بأن تبقى سوريا سيدة قرارها الوطني، وسيدة اختياراتها ومواقفها وتحالفاتها، بما يحقق العزة والكرامة لأبنائها جميعا. وإذ تبدو المجالات التي تناولتها هذه الشهادات والنصوص متعددة وواسعة الاهتمامات والمرجعيات باتساع رقعة الحرب زمانا ومكانا إلا أن خيطا رفيعا يربط ما بينها ويحيلها إلى الموضوع الأساس وهو الحرب وتحديات المواجهة ثقافيا وإعلاميا وميدانيا”.
ويتابع الكاتب السوري “من هنا يعد الكتاب توثيقا للحرب وجبهاتها، ورصدا لمجرياتها، ولمواقف الدول المتباينة منها. وتنطلق هذه النصوص والشهادات من الخاص إلى العام، مركزة على تبدل النفوس والمواقف وما أحدثته الحرب من انكسارات ومفاجآت وفقدان وأسى حينا، ومن تفاؤل وابتهاج في دحر قوى الإرهاب ومموليه ومشغليه حينا آخر. إن مدونة الحرب العدوانية على سوريا لم تكتب بعد إلا في الجزء اليسير منها، وما هذه الشهادات والنصوص في كتابي سوى محاولة لفهم ما جرى وتحليله واستنباط العبر منه”.
ويؤكد جعفر أن لمصر الكنانة على مدى التاريخ – قديما وحديثا – ثقلها النوعي الحضاري والسياسي المؤثر والفاعل على المستوى العربي والإقليمي والدولي، وهذا ما جعلها محط الأنظار، ومهوى الأفئدة، ومعقد الآمال في التعاون وتحقيق المصالح المشتركة، ليس لدى حكومات دول العالم فحسب بل لدى شعوبها في المقام الأول، وفي مقدمتها الشعب العربي على امتداد ساحات وجوده الوطني، الذي يتطلع إليها بوصفها الموئل والدرع والملاذ.
ويعدها العمق الروحي والثقافي لهويته وكينونته، و”بيضة القبان” في الحفاظ على استقراره وأمنه في مواجهة الأخطار المحدقة به، مما حمل الحكومات المصرية المتعاقبة مسؤوليات جسيمة تجاهه، بدءا من الدعم المادي والعسكري لتحرير أراضيه المحتلة وتحقيق استقلاله الوطني من جهة، ووصولا إلى توفير الكوادر العلمية والطبية والتربوية للنهوض به على المستويات كافة من جهة ثانية.
ولعل هذا ما جعل مصر، في رأيه، الأم الرؤوم التي تحتضن العرب جميعا وترعاهم حتى على حساب عيش أبنائها الذين يتحملون الأعباء الكثيرة في سبيل ذلك، وأصبح القول الدارج على ألسنة أبناء العروبة “صلاح الأمة بصلاح مصر”، مسلمة يقينية غير قابلة للنقاش.