برنتون تارانت فيلسوف العرق الأبيض الجديد

في خمسينات القرن العشرين فرّت عائلة أبوعطا من الشرق الأوسط وحرائقه، هربا من الصراعات والنزاعات والتحريض والمجازر، واستقرت في أبعد نقطة يمكن أن يتخيّلها عقل مشرقي، لا في الولايات المتحدة الأميركية ولا في أوروبا أو البلاد العربية كما اعتاد أهل الانتشار من العرب أن يصوبوا جهاتهم.
بل ذهب كبير العائلة إلى مكان في أقاصي الأرض حيث تكون الدنيا ليلاً حينما تكون الشمس في كبد سماء الشرق الأوسط. ولو استطاع أن يغادر هذا الكوكب كله لفعلها، ولكن أقداره ساقته إلى نيوزيلندا، البلد الحديث الجديد، حيث القانون يحمي الجميع هناك، لا تاريخ يعبث بك ولا جغرافيا تفرض عليك تحزبات وتمنطقات وصراعات، بلد يانع بعلاقات جديدة وآفاق مفتوحة، تجعل جميع سكانه يفتحون صفحة بيضاء مع العالم والآخر.
ولكن لماذا ترك أبوعطا بلاده تلك؟ تركها لأن مهاجرين من أقوام أخرى بيضاء من روسيا وبولونيا وأوروبا قاطبة جاؤوا هرباً من مذابح قام بها العرق الأبيض النازي والعنصري طوال خمسين سنة من القرن العشرين في أوروبا، فأولئك طردوا اليهود، واليهود طردوا العرب، وبعض العرب فروا إلى نيوزيلندا وهناك قفزت لهم من جديد العنصرية البيضاء.
ثقافة تعزز النوايا
طوال السنوات الثلاث الماضية كان الشاب الأسترالي الذي طالبت رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أردرن أن يغفل الجميع ذكر اسمه، ولكننا سنذكره لتثبيت الواقعة، كان برنتون تارانت مُغفَل الذِكْر، ذو الأبويين البريطانيين الأصل، يعكف جاهداً وباحثاً في ثنايا التاريخ الموازي للعالم الواقعي عن كل ما يعزز نواياه ودوافعه وغرائزه العنفية في تبرير تلك الأفكار التي كانت تعتمل في صدره.
قرأ تاريخ الصراع بين الدولة العثمانية وأوروبا في العصور الوسطى حتى القرن السابع عشر، وتابع كل جرائم الكراهية في أصقاع الأرض من ألبانيا في القرن السادس عشر وصولاً إلى كندا والنرويج والولايات المتحدة. قرأ تاريخ الحركة النازية والحركة الفاشية وأبحر في التوازنات الديموغرافية في أوروبا. تابع الانتخابات في هولندا وناصر فيها المرشح خيرت فلدرز وتابع نجاح البريكست وتصريحات زعيم حزب الاستقلال نايجل فرج، وتألم بشدة لخسارة مارين لوبان للانتخابات الرئاسية في فرنسا، وحينها قرر أن يكتب مانفيستو الكراهية خاصته الذي عمد إلى سكب كل عصارات الحقد والغضب التي تعتمل في صدره فيه.
فوبيا الاستبدال الكبير
أربع وسبعون صفحة، أو حوالي ستة عشر ألف كلمة كتبها تارانت على صفحاته وأرسلها إلى الصحف والتلفزيونات ووزارة الداخلية النيوزيلندية، قبل أن يغادر منزله متجهاً في صبيحة 15 مارس الجاري إلى مسجد النور في مدينة كرايستشرش عاصمة نيوزيلندا ليصور في بث حي ومباشر وقائع مذبحة بحق مدنيين آمنين لا يعلمون شيئاً عن شارل مارتيل أو إسكندر بك أو ألكسندر بيسونت أو حتى بريفك النرويجي.
كانت هذه الأسماء الخمسة مضاف إليها العشرات تسبح طوال شهور طويلة في مخيلة الشاب تارانت، شخصيات من التاريخ طواها النسيان، لها ما لها وعليها ما عليها، لكنها باقية خالدة في أدبيات اليمين المتطرف العنصري الأبيض المتجذر والمتشعب في العقلية الغربية للبعض؛ مارتيل قائد فرنسي هزم جيوش المسلمين في معركة بواتيه دافع عن بلاده ضد من يغزوها، لكنه في أدبيات تارانت بطل قومي عنصري ذو اتجاه محدد ألا وهو ضد المسلمين، إسكندر بك قائد ألباني مسلم قاد ثورة ضد الدولة العثمانية بسبب صراع سياسي بين عائلته الحاكمة للولاية وبين الدولة المركزية، ولكنه بات في عقلية تارانت بطلا قادما من عمق التاريخ يسعى إلى تدمير الإسلام. شخصيات رصفها تارانت بهدوء وروية عبر تسلسلها الزمني ليقدم فيها تجذيرا لنظريته العنصرية وليعطي لفعلته عمقاً في التاريخ والوثائق، وبالتالي ليفتح عبرها بابا للمستقبل، هو يريد أن يقول إنه ليس وحيدا وإنه استمرارية لما فعله هؤلاء “الأبطال”، وأنه كشاب معاصر أبيض، ينبغي عليه أن “يهرع لنجدة أمّته الغارقة في النسيان“.
الاستبدال الكبير الذي يتحدث عنه تارانت، هو استبدال العرق الأبيض بباقي أعراق الأرض. يحاجج ويدافع ويبرر بأن العرق الأبيض لن يستطيع الصمود حتى ولو قدر للسياسيين الأوروبيين أن يرحلوا جميع الغرباء من القارة الأوروبية، فإن العرق الأبيض يتجه نحو الانقراض بسبب معدلات الولادة المتدنية التي تسجل في أوروبا، والعبارة الأخيرة رددها تارانت مرارا في بيانه.
إحدى أخطر هفوات تارانت عدم اعترافه بالوطنية النيوزيلندية أو الأسترالية كوجهة نهائية له ولنظرائه، فهو لا يعتبر نفسه مواطناً وإنما يرى ذاته أوروبيا أبيض يتوجب عليه أن يقاتل دفاعا عن العرق الأوروبي الأبيض، على عكس ضحاياه الذين قتلهم، والذين يعتبرون أنفسهم مواطنين نيوزلنديين
في هذه النقطة يسجل تارانت إحدى أخطر هفواته التي سها عنها، ألا وهي عدم اعترافه بالوطنية النيوزيلندية أو الأسترالية كوجهة نهائية له ولنظرائه، فهو لا يعتبر نفسه نيوزيلنديّا وإنما يرى ذاته أوروبيّا أبيض، ويتوجب عليه أن يدافع لا بل أن يقاتل دفاعاً عن العرق الأوروبي الأبيض، على عكس ضحاياه الذين قتلهم، والذين يعتبرون أنفسهم مواطنين نيوزلنديين بالكامل اختاروا المجيء إلى ذلك البلد الآمن كي ينشئوا حياتهم الجديدة.
وهو يتحدث عن نقل هؤلاء الغزاة لقيمهم ليقوموا باستبدالهم الكبير ويحتلوا تلك البلدان. ولكن ذلك الأمر لم يحصل في أستراليا أو نيوزيلندا أو حتى كندا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال، دون الحاجة إلى ذكر أنه لم يحصل مطلقا في أوروبا، بل إن كل ما يطرح، ما هو إلا توقعات وتخمينات عنصرية قامت بها أحزاب اليمين الأوروبي، غير أن تارانت يعمل على سحب ومدّ حالة الصراع التي افترضتها أحزاب اليمين الأوروبية المتجذّرة منذ الحرب العالمية الثانية وإيصالها إلى بلدان العالم الجديد في نصف القارة الجنوبي، ناقلاً الكراهية ومبشرا بها، في بلد يتفتح بهدوء وطمأنينة بعيدا عن صراعات القارة العجوز مع جيرانها في الشطر الجنوبي من البحر المتوسط.
تارانت يكافح آفة الديمقراطية
صراع تارانت هذا، صراع لا قيمة في كندا مثلا حيث حصلت جريمة مشابهة في عام 2017 حينما قتل ألكسندر بيسونت سبعة أشخاص في حادثة هجوم على مسجد في كيبك. ولا قيمة له من حيث الخطورة في بلد مسالم بعيد جدا مثل نيوزيلندا، ولكنه ذات الفكر العابر للبلدان، والذي ينتقل عبر الإنترنت مخاطبا نعرات وركائز العنف لدى الشباب الأبيض في كل مكان من العالم. وكالعادة فإن أفضل وسيلة لتجييش الناس هي أن تزرع في عقولهم أنهم في خطر وأن الآخر الذي سيهاجمهم هو فئة منظمة تعلم ما تفعل، وزد على ذلك أن ما يقوم به هؤلاء الغزاة مخطط له ويحاولون تنفيذه منذ قرون عديدة، ولكن وجود أبطال مثل الذين ذكرهم تارانت والذي يعتبر نفسه واحدا منهم، هو ما يحول دون تمرير ذلك المخطط.
في الصفحة الأولى من بيانه يستعرض تارانت قصيدة شهيرة لتوماس ديلان الشاعر الويلزي وهي “لا تدخل بلطف إلى تلك الليلة الجميلة” المنشورة عام 1951. وفيها يوجّه الشاعر خطابا لوالده ويحثّه فيه وهو على فراش الموت أن ينهض “لا تذهب بهدوء إلى تلك الليلة الجميلة، بل اغضب وانفعل حيال فناء النور”. ويكمل “وأنت يا أبي، هناك على ذلك العلو الحزين، تلعنني، تباركني الآن بدموعك الشرسة، على ما أرجو. لا تدخل بهدوء في ذلك الليل اللذيذ. صبّ جام غضبك، صبّ جام غضبك على احتضار الضوء”.
يصوب تارانت هنا ذكاءه بفلسفة متعالية، عبر الاستعانة بالأدب الإنكليزي، ليعلن غضبه قبل وفاة الأب في القصيدة الذي يمثل حسب هلوسات تارانت الحضارة الغربية قاطبة. وهي افتتاحية موفقة لبيان يحمل من الكراهية والعنف والعنصرية ما يحمل، فليس ما هو أفضل من الاستشهاد بالقوة الناعمة للثقافة الأوروبية من أجل تبرير القوة الدموية للعنصريين اليمينين البيض، ونحن هنا نذكر أن قاتل جون لينون كان يحمل رواية “الحارس في حقل الشوفان” لسالينجر، وأن قاتل جون كينيدي كان مهووسا بدستويفسكي.
شخصيات لافتة يرصفها تارانت بهدوء وروية عبر تسلسلها الزمني، ليقدّم فيها تجذيرا لنظريته العنصرية وليعطي لفعلته عمقا في التاريخ والوثائق، وبالتالي ليفتح عبرها بابا للمستقبل، كأنه يريد أن يقول إنه ليس وحيداً، وأنه كشاب معاصر أبيض، ينبغي عليه أن "يهرع لنجدة أمته الغارقة في النسيان"
هي ذات المحاولات للتجذير ولتأصيل الجريمة وجعلها ضمن سياق تاريخي نفسي أدبي واحد مستمر من قرون. ولا بد من أن يحمله الجيل الجديد الداعي إلى العنف، لمواجهة “آفة الديمقراطية” التي سمحت للغزاة الجدد أن يقتحموا بلاد العرق الأبيض، متناسيا أن بلادا كاملة بُنيت وسادت ولازالت تسود بفضل هؤلاء المهاجرين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وحتى أوروبا التي تنتعش بقوة بفضل المهاجرين، ولكن نظرة الاستعلاء هذه هي شكل جديد من أشكال الإمبريالية التي تفترض سيادة العرق الأبيض في مواجهة باقي الأعراق على الكوكب، وتفترض نقاء العرق الأبيض وذكاءه وأصالة قيمه الأخلاقية في مواجهة باقي الشعوب، وإن كان ولا بد فلا بأس من استغلال تلك الشعوب لرخاء العرق الأبيض دون الاضطرار إلى مشاركتهم السرير.
فكرته وخطابه لم يخترعهما تارانت، فهما بقدر ما يملكان من الجرأة والشجاعة والقوة في الاعتراف ومواجهة العالم والقانون ومعرفة الأحكام الرهيبة التي سيتعرض لها، يملكان الكثير من التقليد ومحاولة إرسال رسالة للمستقبل، فقبله كتب برفيك مجرم النرويج مانفيستو ضخما يفسر فيه كل ما سبب ودفع لارتكابه مجزرة بحق 76 ضحية من الشباب اليساري كانوا في مخيم في النرويج.
ومن ذلك المعلم القابع في سجون أوسلو يدعي تارانت أنه أخذ المباركة والبشارة بتنفيذ جريمته التبشيرية بالكراهية. مانفيستو بريفيك والذي امتد بالحقد 1518 صفحة، كان معنونا بـ”الإعلان الأوروبي للاستقلال” كتبه مجرم أوسلو على مدى تسع سنوات بلغة إنكليزية سليمة كي يصل إلى أكثر عدد ممكن من تلامذة التطرف، ونشره على موقع خاص وعرّف فيه عن نفسه بأنه أحد قادة الحركة الوطنية الأوروبية للمقاومة.
من خلال تلك الإعلانات تتضح صورة هؤلاء الشبان الغلاة بالتطرف والغضب والعنصرية، متكاملة مع البطالة والإحساس بالعجز وعقد النقص، تماما في حالة مشابهة للبنية النفسية التي تجمع عناصر التنظيمات المتطرفة في الطرف الآخر من الصراع وهم من ضحايا تنظيم داعش.
انتعاش داعش

داعش الذي كان يعيش آخر أيامه جغرافيا وتنظيميا على يد القوات الكردية والأميركية في قرية الباغوز وجد في مجزرة المسجدين في نيوزيلندا طوق نجاة عقائدياً له، ففي نفس اليوم الذي كان التنظيم يلفظ أنفاسه هناك في جنوب شرق سوريا، كان قادته وغلاة مفكريه ينتعشون وهم يجدون مبررا جديدا يذكي نار الكراهية في عملية مُغفَل الذِكْر، فما من شيء يعطي للتطرف الداعشي “مشروعية” بقدر مشهد إطلاق الرصاص على المصلين العزل وهم في حالة سجود في المسجد، تحت بندقية رجل يدعي أنه من فرسان المعبد المعاصرين وهو يفعل هذا من أجل حماية بلاده من الغزاة، ممن غادروا بلادهم هرباً من مهاجرين، أتوا بدورهم، هرباً من محارق الآريين أحفاد فرسان الهيكل القدامى، غادروا بلادهم إلى أرض كانت تسكنها شعوب الماوري الأصلية وكانت تسمى جزر التشاتام حتى وصلها المستعمرون الأوروبيون وسكنوها وكانوا أول من أستوطن بها، ومنهم كان أمثال أجداد المتطرف تارانت الذين أبادوا سكانها الأوائل الأصليين من قبل، ومن بعد يريدون إبادة المهاجرين الجدد.
إنهم إذا أحفاد مهاجرين يقتلون أحفاد مهجرين على يد مهاجرين، هي سيرة الهجرة والإبادة العنصرية، هي سيرة طائر الوقواق الذي يرمي كل الفراخ الأصلية من العش ليبقى فيه وحيداً مستطعماً على يد أم تجهل من هو، ولكنها تقبل به من باب المواطنة والديمقراطية لا أكثر.
إنه المواطن الأبيض الاستعلائي، إنه اليمين العنصري وهو يدق أبواب التاريخ ليخرج شياطينه لمحاربة الآخر، وهي العنصرية التي تقصي الجميع بكل أطيافهم.