اللواء محمد محلا وجه من وجوه الصراع على سوريا

رئيس شعبة المخابرات العسكرية السورية اللواء محمد محلا وجه يدفع ثمن التناقض الروسي الإيراني.
الخميس 2019/04/11
دفع الثمن

كثيرا ما نُظر إلى اللواء محمد محمد رئيس شعبة المخابرات العسكرية السورية الذي أقيل من منصبه مؤخرا، على أنه واحد من أبرز الضباط المتحمسين للمشروع الإيراني، حيث أقام علاقات وطيدة مع القادة العسكريين الإيرانيين أثناء خدمته الطويلة في ملاك الحرس الجمهوري، وفي شعبة الأمن السياسي، واستمر ذلك طويلا، حتى عمد محلا، ومن دون سابق إنذار، إلى قلب ولائه السياسي والتنظيمي من المعسكر الإيراني ليصبح إحدى أبرز أوراق اللعب الروسية في الميدان السوري.

يحدث هذا وسط الغليان الذي تشهده الأراضي السورية الذي لم يتوقف يوما منذ انفجرت ما يسميه الدمشقيون “قارورة العطر” التي وضعها جانبا حافظ الأسد فوق رف مكتبه مدة ثلاثين عاما. ومنذ إعلان سقوط معاقل الفصائل المسلحة المعارضة لنظام ولده بشار الأسد، والتي استطاعت اقتناص أكثر من ثلثي الأراضي السورية خلال ثلاث سنوات من بدء النزاع المسلح عقب إخماد القوات النظامية المظاهرات السلمية مع أواخر عام 2011، ومنذ إعلان مناطق مثل الغوطة وأرياف حمص الشمالية ودرعا والقلمون، مناطق خاضعة للنظام، ظن الكثير أن الصراع في سوريا قد انتهى، وأن احتفالات النصر وحلقات الدبكة والهتاف ومجالس الشعر والزجل سوف تعقد مباشرة في كل مسارح وساحات و شوارع المناطق التي سميت خاضعة للأمر الواقع.

تقاسم الكعكة الشرس

 لكن التصور في مكان والواقع المباشر في مكان آخر. فما جرى عقب إعلان وقف إطلاق النار وتوقف غارات الطيران الروسية والهجمات الجوية النظامية، هو جمر يتوهج تحت رماد سوريا، ذلك البلد الجاثم بمدنه المحطمة وبلداته الرمادية الفارغة وقراه المهجّرة وملايينه الزاحفة نحو ملاذ آمن في خارج البلاد.

صراع يسميه المراقبون “تقاسم الكعكة”، فحلفاء النظام الذين زجوا بسمعتهم الدولية ودبلوماسيتهم المفترضة وجيوشهم الجرارة في أتون الصراع السوري، باتوا اليوم يطالبون بحصتهم من فوائد ذلك الصراع. ولم يعد الأمر سرا أو في أروقة المحافل الدولية ولكنه علني ودون أي مواربة أو خجل. بلد لا يزال مسؤولوه يصرحون بأنه يحكم من حكومة منتخبة ودولة قائمة، تعقد لها ثلاث دول هي “تركيا وإيران وروسيا” العشرات من الاجتماعات، تحت عنوان إيجاد حل سياسي لإنقاذ البلد، بينما الواقع هو عملية تنظيم اقتسام للغنيمة السورية دون حدوث أي اشتباكات أو نزاعات تفسد ود الحلفاء وتكتلهم في مواجهة البعبع الأميركي.

إقالة محلا، فجأة ودون سابق إنذار، لا تزال تشكل صدمة لزورين الذي غادر إلى موسكو مباشرة للاجتماع بالقادة الروس على عجل.
حلفاء النظام الذين زجوا بسمعتهم الدولية ودبلوماسيتهم المفترضة وجيوشهم الجرارة في أتون الصراع السوري، باتوا اليوم يطالبون بحصتهم من فوائد ذلك الصراع

مؤسسات الدولة المنشطرة

لا يقتصر تقاسم الغنائم على تقاسم الأرض وعقود إعادة الإعمار والسيطرة على منافذ الدولة وموانئها ومطاراتها فقط، بل يتعداه لتقاسم النفوذ على تركيبة الجيش والأمن وحتى الحكومة الإدارية فيها.

في سبعينات القرن الماضي اشتغل الاتحاد السوفييتي على فكرة تشبيك الجيش السوري مع المؤسسات السوفييتية كنوع من تأصيل ما سماه التعاون بين البلدين، طبعا كان هذا التشبيك قائما على العشرات من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والدفاعية والأمنية والأهم من ذلك اتفاقيات التعليم العالي والتدريب العسكري. ولم تقدح موسكو حينها من رأسها توقيع تلك الاتفاقيات، وإنما كانت جزءا من تفاهمات دولية أجرتها مع الولايات المتحدة، فتقاسم حينها القطبان العظيمان النفوذ والخرائط في جميع أنحاء العالم وليس فقط في القطر السوري المحكوم من حزب يقول عن نفسه إنه يساري اشتراكي.

القيادة السورية يبدو أنها باتت مقتنعة بضرورة التخلص من الإيرانيين الذين يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل شبه يومي، أنه جاد هذه المرة في اجتثاثهم من الشرق الأوسط، وهكذا كلف اللواء محلا بالتعاون مع الروس من أجل إضعاف الإيرانيين في الجنوب السوري بداية، وذلك لحساسية المنطقة الجنوبية الملاصقة لإسرائيل والأردن ولكثافة التواجد الإيراني فيها

واستمر تدفق المتدربين والطلاب من دمشق إلى موسكو طوال أكثر من أربعة عقود وعبر عملية عكسية كانت عمليات التعيين والتوزير والتوظيف تتم في الاتجاه المعاكس في سوريا، لأغلب هؤلاء الطلبة والمتدربين العسكريين ممن يدينون بالولاء والعقيدة للاتحاد السوفييتي ومن بعده لروسيا الاتحادية، حتى قرر الأسد الأب إدخال لاعب آخر على الخط السوري، ألا وهو اللاعب الإيراني، ابتداء من العام 1994، الذي هو عام وفاة نجله باسل في حادث سيارة ليلي غامض، قامت البلاد على إثره ولم تقعد، ولكن بهدوء موج البحر السكوني الذي كان يحكم سوريا، يقول المراقبون إن الأسد الأب قرر إدخال العامل الإيراني لضمان نقل السلطة من بعده، لاسيما وأن التقارير الصحية كانت تفيده بأنه مصاب بسرطان الدم المتقدم، وبالفعل تم هذا الأمر عبر الرافعة الإيرانية وعبر ضمانات دولية أقرتها جميع الدول الفاعلة في الشرق الأوسط العربية والإقليمية وحتى الدولية منها.

الأسد الأب كان يعامل إيران بندية ما أتاحتها له التوازنات الدولية، وأغلب الدراسات تفيد بأنه كان يقيد تحركاتهم ومحاولات مد نفوذهم في الأراضي السورية، وذلك لفهمه قوانين اللعبة الإقليمية والدولية بشكل جيد ومدروس.

 ولكن الإيرانيين الذين تداعى العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 أمامهم، كانت لهم خطط أخرى تعتمد على ابتلاع الدول التي تقع غرب حدودهم بشكل لا يحمل المواربة. وكانوا يعملون على ذلك ابتداء من المساهمة في إسقاط نظام صدام حسين وحتى دعم حزب الله حليفهم المقنّع ووصولا إلى بدء زرع بذور التبعية الإيرانية في البيروقراطية السورية الفاسدة لدى الحرس الجديد.

بازار الولاءات

إقالة محلا، فجأة ودون سابق إنذار، لا تزال تشكل صدمة لزورين الذي غادر إلى موسكو مباشرة للاجتماع بالقادة الروس على عجل
إقالة محلا، فجأة ودون سابق إنذار، لا تزال تشكل صدمة لزورين الذي غادر إلى موسكو مباشرة للاجتماع بالقادة الروس على عجل

الأخبار الواردة من مصادر محلية من داخل الأراضي السورية تتحدث عن صراع محتدم عالي الوطيس نشب ويستعر بين الكولونيل ألكسندر زورين الضابط الروسي الرفيع مهندس اتفاقيات التسوية في الغوطة ودرعا وحمص ومهندس اتفاق لافروف-كيري 2016، والذي يعتبر الحاكم العسكري الروسي لسوريا بأمر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من جهة، ومن جهة أخرى بين اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس والممثل المباشر للمرشد الإيراني خامنئي في العراق وسوريا ولبنان، حيث يرتبط بكل من الرجلين العشرات من الضباط والقادة الأمنيين في الجيش وأجهزة المخابرات السورية، حيث تصبح القسمة على الشكل التالي؛ الروس “سهيل الحسن قائد فرقة النمر”، في مقابل إيران “ماهر الأسد القائد الفعلي للفرقة الرابعة”.

 أما على الصعيد الأمني وهو الصعيد صاحب العلاقة المباشرة مع المواطنين السوريين من حيث القمع والاعتقال ولوائح المطلوبين والعلاقة المباشرة مع قيادة النظام السياسية، فيبرز اسم اللواء محلا، الاسم الذي سطع في الأشهر الـ18 الأخيرة. فبعدما كان الرجل محسوبا وبشدة على المعسكر الإيراني وخاض رجاله قتالا عنيفا إلى جانب الميليشيات المدعومة من إيران وصل إلى حد تصنيف عدد من وقائع ما ارتكبوا بمجازر أدت إلى وضع اسمه على قوائم العقوبات الأميركية والبريطانية والكندية كأحد مرتكبي المجازر في سوريا.

استهداف رجال ماهر الأسد

لكن اللحظة التي غير فيها اللواء محلا ولاءه، يبدو أنها كانت لحظة فارقة، بعد أن تمت ترقيته من نائب شعبة الاستخبارات العسكرية ذائعة الصيت في سوريا والتي يقبع مركزها في وزارة الدفاع السورية ويتبع لها عدد من الأفرع سيئة الذكر عالميا، مثل فرع فلسطين وفرع الدوريات وفرع ريف دمشق رستم غزالة سابقا، ليعين رئيسا للاستخبارات العسكرية التي يتكل عليها النظام السوري في تنفيذ عمليات تواصل خارجية وداخلية مهمة جدا وهو الفرع المسؤول عن أمن الضباط وأمن القطعات العسكرية وتموضعها وعلاقتها مع ما يسمى بالقوات الرديفة والحليفة من إيران ولبنان والروس.

في ذلك الوقت بالذات وبناء على تسوية متفق عليها انقلب اللواء محلا من مكانه مع بيادق إيران في الملعب السوري ليصبح منسقا مباشرا مع الكولونيل زورين مباشرة، وعلى اتصال مباشر مع القيادة السورية التي باتت مقتنعة بضرورة التخلص من الإيرانيين الذين يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب جادا هذه المرة في اجتثاثهم من الشرق الأوسط، ولكن وكما عهدت أروقة السياسة العالمية من ازدواجية المعايير وتقلبات وتخبط القرار السياسي السوري، كلف اللواء محلا بالتعاون مع الروس من أجل إضعاف الإيرانيين في الجنوب السوري بداية، وذلك لحساسية المنطقة الجنوبية الملاصقة لإسرائيل والأردن ولكثافة التواجد الإيراني فيها عبر محاولات تأسيس حزب الله خلايا ونقاط ارتكاز قريبة من الحدود لفتح باب البازار مع المجتمع الدولي من البوابة السورية هذه المرة، عبر نشر صواريخ الكاتيوشا والمقايضة عليها في ما بعد.

بعد إنجاز اتفاق التسوية مع فصائل حوران والجنوب العام الماضي، وفتح الطرقات وإنجاز ما يعكف الروس على تسميته بالمصالحات الوطنية، سلط الضوء على اسم اللواء محلا بشدة وباتت عزيمته أقوى في استهداف رجال ماهر الأسد وتقليص نفوذهم في الجنوب، وعبر الدعم الروسي له وإمداده بكل ما يلزمه من دعم سياسي ولوجستي لإجراء تغييرات في الأجهزة الأمنية في الجنوب لصالح الروس وكف يد الميليشيات الإيرانية عن التحكم بمفاصل الجنوب وطرقاته ومنافذه وإمداداته اللوجستية.

تسريبات عن صراع مستعر ما بين الحاكم العسكري الروسي لسوريا الكولونيل ألكسندر زورين واللواء الإيراني قاسم سليماني
تسريبات عن صراع مستعر ما بين الحاكم العسكري الروسي لسوريا الكولونيل ألكسندر زورين واللواء الإيراني قاسم سليماني

وبالفعل انتقل اللواء محلا مجللا بالقناصة والعناصر الكثيفة إلى حوران في زيارة غير مسبوقة، محملا بالهدايا والعطايا، ولسخرية القدر تمثل هدايا الشخصيات الأمنية عادة مثل هذه، أمورا لا تخطر على بال الضيوف، فكانت هديته هي 27 معتقلا للإفراج الفوري كبادرة حسن نوايا مع شيوخ ووجهاء حوران، الذين التقاهم في مزرعة قريبة من مدينة انخل بحضور قادة من فصائل معارضة مسلحة سابقة، انتقل أحدهم من الأردن بعد مفاوضات وتطمينات، وشمل اللقاء حسب تسريبات من الحضور، طلب التعاون مع الفصائل المعارضة المسلحة سابقا من أجل تحجيم وتطويق النفوذ الإيراني في الجنوب، ودعم عودة بعض الأهالي من بصرى من المحسوبين على النظام، مقابل قوائم للمعتقلين للإفراج الفوري وإعادة الرواتب المقطوعة لعدد كبير من موظفي القطاع العام. عدة طلبات خدمية لا تنتهي لمحافظة منكوبة تماما يحاول أعيانها لملمة ما فشلت الدولة عن إنجازه منذ تسع سنوات.

الإيرانيون يحتفظون منذ لحظة الحادي عشر من سبتمبر 2001 أمامهم، بخطط تعتمد على ابتلاع الدول التي تقع غرب حدودهم.  ابتداء من المساهمة في إسقاط نظام صدام حسين ودعم حزب الله حليفهم المقنّع ووصولا إلى بدء زرع بذور التبعية الإيرانية في البيروقراطية السورية

 حمل الروس مع محلا فكرة إنشاء الفيلق السادس لمواجهة الإيرانيين، مترافقة مع عدة طلبات لتحقيق الأمر، ولكن الإيرانيين ورجالاتهم كانوا يتفرجون بصمت على ما يفعله رجال روسيا في الجنوب، فبعد أن قلب محلا كل ما فعله اللواء جميل حسن رئيس شعبة المخابرات الجوية الذي قام بدوره بزيارة سابقة إلى درعا كللها باعتقالات وطلبات مباشرة للوجهاء بتجنيد أبنائهم في الجيش والأجهزة الأمنية كبادرة لتحقيق مطالبهم المدنية، شنت الميليشيات الإيرانية عدة هجمات وحملات اعتقال وحتى عمليات اغتيال في كامل إقليم حوران وأريافه، محملة الفوضى الأمنية لقادة الأجهزة الأمنية المعينين مؤخرا من قبل الروس حيث طالت الاغتيالات قضاة ونشطاء وقادة في المعارضة وحتى وجهاء يحسب الحساب لهم، من أجل تثبيط الهمة عن التعاون مع الطرف الروسي. وترافقت تلك العمليات الميدانية مع ضغوط كبيرة على رأس النظام من أجل تحقيق تغييرات أساسية وإقالة محلا.

السيادة الهشة

في النهاية بات المشهد المرعب كمشهد شياطين تتصارع في جحيم من نار، مرتكب مجازر دولية ومطلوب من أشهر مطلوبي الأمم المتحدة يفقد بوصلته ضائعا بين نار ميليشياوية إيرانية، وجحيم روسي بارد وعنيف، دون وجود أي أساس لدولة سورية أو سيادة تستطيع إمساك الأرض أو فرض قوانينها.

 وبعد الوعود التي أعطتها روسيا لنتنياهو بضبط الجنوب وتحجيم إيران، بات ظاهرا للعيان حجم تأثير القوى في الميدان السوري، حيث أقيل اللواء محلا فجأة ودون سابق إنذار مما سبب صدمة للكولونيل زورين فغادر إلى موسكو مباشرة للاجتماع بالقادة الروس على عجل. تم استبدال محلا باللواء كفاح ملحم، مندوبا من بشار الأسد على حد تعبيرهم، ولكن يرصد من خلال متابعة مواقف رجالات إيران في الأجهزة الأمنية ارتياحهم لتعيين ملحم بديلا عن محلا، وهكذا بوسعنا تلمس على من يحسب ملحم من دون أي مواربة.

وقد تضمر الأيام والأسابيع القادمة مفاجآت كبرى مرتبطة بالجنوب السوري، ربما تكون ساخنة وملتهبة مثل حرارة الصيف القادم وربما تشهد سقوط الأقنعة المباشر لرفع الصراع من تحت الجمر لما فوق اللهيب.

12