برنامج مبادلة النفط بالمحروقات يلتهم ثروة الليبيين

تحولت عملية مقايضة النفط بالمحروقات التي تعتمدها السلطات الليبية إلى واحدة من أكبر بؤر الفساد والعبث بالمال العام، فيما دعا رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى “ضرورة إنهاء عملية المبادلة للنفط بالوقود”، ووضع آليات فعالة لحماية موارد ليبيا، مشيرا إلى سعيه لتشكيل لجنة فرعية من اللجنة المالية العليا تتولى الإشراف على تسويق النفط ومشتريات الوقود.
وقال المنفي إن “الإصلاح المالي حزمة واحدة بدأت بحوكمة المصرف المركزي، لينفذ ترتيبات مالية موحدة، مع ضرورة إنهاء عملية المبادلة للنفط بالوقود، وتطبيق الإشراف الوطني المشترك على عمليات تسويق النفط ومشتريات الوقود،
ووضع آليات فعالة، لتعزيز الشفافية والمساءلة، بما يكفل حماية الموارد الوطنية.” وأضاف “نسعى استنادا إلى ذلك لتشكيل لجنة فرعية مشتركة تابعة للجنة المالية العليا، تضم الجهات والمؤسسات المعنية والرقابية، بهدف تعزيز حوكمة عقود تسويق النفط ومشتريات الوقود، وضبط العمليات وفق الاحتياجات الفعلية، بما يضمن مكافحة الفساد، وترشيد النفقات، وحماية مصالح الشعب الليبي.”
وتابع المنفي “هذه الرؤية تأتي في ظل الظروف الراهنة، وبموجب خارطة الطريق للاتفاق السياسي التي تولي للسلطة التنفيذية سلطة ترشيد المصروفات والنفقات العامة والشفافية ومكافحة الفساد والتعاون الفعال مع المؤسسات الرقابية، ووفقا لقرار مجلس الأمن الذي يؤكد أهمية الرقابة الليبية الفعّالة، بما في ذلك دور اللجنة المالية العليا في ضمان إدارة إيرادات النفط والغاز بطريقة شفافة ومنصفة وخاضعة للمساءلة.”
وكشف تقرير ديوان المحاسبة للعام المالي 2023 الصادر الخميس الماضي، استمرار انتهاج الإنفاق بالمقايضة المباشرة للنفط الخام مقابل مشتقات نفطية (محروقات)، إذ بلغت تكلفت المقايضة 8.854.310.951 دولار. وأوضح التقرير أن المؤسسة الوطنية للنفط تعاقدت مع شركات وسيطة حديثة غير معروفة لا تملك خبرة، لمبادلة المحروقات، بدلا من التعاقد رأسا مع شركات كبرى معروفة ذات الاختصاص والخبرة، لافتا إلى أن هذه الشركات لم تستوف الشروط المطلوبة، وهو ما اعتبرها تجاوزات وخسائر ترتقي إلى شبهة الفساد.
◙ مراقبون يرون أن حوالي نصف ميزانية ليبيا السنوية يصرف لتمويل الوقود الذي يذهب جانب كبير منه إلى التهريب
وأشار التقرير إلى أن إجمالي قيمة تزويدات السوق المحلية من المحروقات لمختلف الأغراض خلال سنة 2023، بلغ أكثر من 16 مليار دولار، موزعة على قيمة المبادلة التي بلغت أكثر من 8 مليارات دولار، والتكرير بالمصافي المحلية، بأكثر من 3 مليارات دولار، وتزويدات كبار المستهلكين بأكثر من 4 مليارات دولار.
وبحسب مستشار رئيس المجلس الرئاسي زياد دغيم، فإن عملية مقايضة النفط مقابل الوقود بدأت في العام 2018 لتغطية الاستهلاك المتزايد للوقود وإنتاج الكهرباء من خلال آليات تنسيق معقدة بين شركات تسويق النفط وشركات إنتاج الطاقة، ولا تتولى مسؤوليتها المؤسسة الوطنية للنفط أو وزارة النفط. وشهدت تكلفة المقايضة ارتفاعا سريعا، من 3 مليارات دولار عام 2020 إلى 5.6 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة، في حين لم يواكب إنتاج النفط الليبي هذه الزيادة.
وفي أكتوبر من العام 2021، تبنت الوطنية للنفط برئاسة مصطفى صنع الله برنامج المقايضة بعد نفاد مخصصات دعم المحروقات بالميزانية العامة وامتناع المركزي عن منح التمويل والمخصصات اللازمة. وجاءت هذه الخطوة من المؤسسة بعد موافقة حكومة الدبيبة في أبريل من العام نفسه على تبادل كميات النفط الخام مع شركات التكرير المعروفة لتوريد المحروقات اللازمة، على أن تتم التسوية التجارية معها لاحقا.
واعتبر رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة أن عملية مقايضة النفط الخام بالمحروقات، تعدّ عملية سداد مقابل توريد المحروقات، وليست مبادلة نفط بمحروقات. وأضاف أن الآلية اعتمدت من مجلس الوزراء عام 2021 بحساب مقاصة لتسوية قيمة المحروقات مع الجهات التي يصدر لها النفط ولها القدرة على توريد المحروقات.
ويرى المراقبون أن حوالي نصف ميزانية ليبيا السنوية يصرف لتمويل الوقود الذي يذهب جانب كبير منه إلى التهريب نحو دول الجوار والدول الأوروبية، نظرا لأن سعر البنزين في الأسواق المحلية يعتبر الأرخص من نوعه على مستوى المنطقة، والثاني في العالم بعد إيران، حيث لا يتجاوز 0.73 دينار للتر (0.031 دولار أميركي).
وكان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة أكد في يناير الماضي أن حكومته ستطرح قضية رفع الدعم عن الوقود على الاستفتاء العام، لاستطلاع رأي الليبيين تجاه هذه المسألة، وقال إنه على استعداد لاستقبال آراء الجميع بخصوص هذه القضية وأن “باب النقاش مفتوح بخصوص الطريقة التي يجب بها منع إهدار الموارد وقطع الطريق على المهربين”، مشيرا إلى أن “الحكومة ستعطي المواطن ثمن البنزين سواء كان مبلغا ماليا أو كوبونا، حتى لا يستفيد المهربون من مدخرات الليبيين”، مردفا أنه “من غير المعقول أن تصرف الحكومة قرابة 15 مليار دولار على الدعم، وتذهب إلى خارج الحدود ووراء البحار.”
وفي أبريل الماضي، دعا المجلس الأعلى للدولة إلى إبعاد المؤسسة الوطنية للنفط عن التجاذبات السياسية وأي خلافات، ومكافحة الفساد ودعم جهود مكافحة التهريب. وطالب في بيان، بتوفير المحروقات من الميزانية المعتمدة للدولة الليبية أو الترتيبات المالية التي تقرها اللجنة المختصة، وإيقاف عمليات مقايضة النفط الخام بالمحروقات، لما سببته من إهدار للمال العام نتيجة غياب الرقابة والشفافية المتعلقة بهذا الأسلوب من التعاملات.
ودعا المجلس إلى ضرورة تطوير الحقول النفطية، من خلال إلزام المؤسسات المالية التابعة للدولة بتوفير الأموال والدخول في شراكة مع الشركات النفطية التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، والابتعاد عن أي تعاقدات قد تساهم في التفريط في مصدر رزق الليبيين. كما سبق لعضو مجلس النواب عبدالسلام نصية أن نادى بإيقاف مقايضة النفط بالمحروقات والتحقيق فيها، مؤكدا أنها فعل مخالف للقانون وجريمة اقتصادية بحق الشعب الليبي.
◙ عملية مقايضة النفط الخام بالمحروقات، تعدّ عملية سداد مقابل توريد المحروقات، وليست مبادلة نفط بمحروقات
وقدر خبراء من المالية أمام نواب البرلمان متوسط استهلاك المحروقات في ليبيا بـحوالي 7 ملايين طن، وهو ما يعني أن كل مواطن ليبي سواء كان طفلا أو شيخا أو عجوزا أو رجلا أو امرأة في الريف أو المدينة يستهلك بمعدل طن من المحروقات سنويا، لكن الأرقام المسجلة على أرض الواقع تتجاوز كثيرا تقديرات الخبراء.
وبحسب رئيس ديوان المحاسبة الليبي خالد شكشك، فإن برنامج دعم المحروقات توسع خلال السنوات السابقة في ليبيا، وقفز إلى 62 مليار دينار (12.8 مليار دولار) في السنة المالية 2022، من 36 مليار دينار في العام 2021، وهو ما يمثل نصف الموازنة العامة، مشيرا إلى أن ما يقرب من 40 في المئة من هذا المبلغ (نحو خمسة مليارات دولار) يجرى تهريبه خارج ليبيا. كما يقدر المصرف المركزي خسائر البلاد بسبب تهريب الوقود المدعم بأكثر من 30 مليار دينار (6 مليارات دولار)، مردفا “هكذا أصبحنا أمام قضية فساد كبرى، وتحول التهريب من نشاط محدود على يد أفراد إلى جريمة منظمة تقوم بها مجموعات ذات قوة ونفوذ، وتستخدم شاحنات وناقلات نفطية عملاقة.”
وكشفت جهات التحقيق في إيطاليا العام 2017 شبكة دولية لتهريب وقود الديزل على متن سفن من ليبيا إلى مالطا، ومنها إلى الأسواق الأوروبية. وشملت تلك الشبكة لاعب كرة مالطيا شهيرا، وزعيم تشكيل مسلح في ليبيا، وشركة شحن إيطالية ومافيا. وبحلول مايو 2022، لاحظ مسؤولو مؤسسة النفط الوطنية نمطا لتهريب الوقود من ليبيا إلى تركيا، لكن لم يتمكنوا من كشفه أو إيقافه، حسب وثائق حصلت عليها بلومبيرغ.
وفي مذكرة بتاريخ العاشر من مايو 2022 إلى النائب العام في ليبيا، خص رئيس المؤسسة وقتها مصطفى صنع الله بالذكر ثلاث سفن متورطة في تهريب شحنات الوقود، بينها “الملكة ماجدة”، وحث النائب العام على اتخاذ التدابير اللازمة لوقفها.
وكانت محكمة جنايات طرابلس أصدرت مؤخرا حكما بالسجن 10 سنوات على 15 مهربين أجانب بتهمة تهريب 1.1 مليون برميل من النفط تم تصديرها بطريقة غير مشروعة في عدة مناسبات من شواطئ زوارة إلى وجهات أجنبية. وشددت المؤسسات المشاركة في الاجتماع على ضرورة اتخاذ إجراءات منسقة لتحسين الشفافية في إدارة موارد الطاقة وتعزيز الضوابط ضد الجماعات الإجرامية. ومن بين المقترحات التي تمت مناقشتها تحسين توزيع الوقود لتقليل فرص التهريب، ومراجعة دعم الوقود وتعزيز التعاون بين المؤسسات المالية والقضائية والأمنية.
ويرى متابعون للشأن الليبي أن برنامج مبادلة النفط بالمحروقات مرتبط بملف تهريب الوقود، وهو نموذج حي للعبث بالمال العام ونهب ثروة الليبيين من قبل بارونات الفساد والعصابات المتحالفة معهم على مستوى السلطات الحاكمة وأمراء الحرب وزعماء الميليشيات حيث تحولت ليبيا إلى أكبر بلد منهوب على صعيد المنطقة والعالم.