برنارد لويس عراب الصدام بين الشرق والغرب

كانت لافتة تغريدة الزعيم السياسي اللبناني وليد جنبلاط التي كتبها على موقع تويتر عشية رحيل المستشرق الشهير برنارد لويس قبل أسبوعين، رغم أن جنبلاط الدرزي لا ينتمي إلى الإسلام التقليدي العريض الذي هاجمه لويس، وكان بوسعه أن يستثمر كثيرا في فكر لويس كما فعل غيره، قال جنبلاط “يا له من خبر جميل فقد رحل أخيرا ملك الحقد ومنظر صراع الحضارات برنارد لويس، رحل من هذه الدنيا إلى جهنم إن شاء الله. أكاد أقول إنه الوجه الآخر لداعش في الغرب”.
ولم يكن إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأميركي الوحيد الذي تنبه إلى التيار الهادر الهادئ الذي أطلقه لويس، الذي رحل عن عالمنا بعدما ملأ الدنيا وشغل الفكر والنخب حاكمة ومحكومة.
لكن سعيد كان أهم من فكك وحلل وناقش وتصدى للفكر الخطير الذي قدمه لويس عبر أسلوبه وطريقته ذاتها. اجتهد طويلا لتقديم صورة مغايرة للشرق عن تلك المألوفة والمتعارف عليها في كلاسيكيات السياسة الفكرية الأوروبية والغربية، فمن رفضه لنظرية الاستشراق مرورا بتفكيك الكولونيالية، وصولا إلى نقد ونقض صراع الحضارات وتصادمها، كان مصرا على مواجهة ذلك الفكر الهادر الذي سيطر على دوائر القرار الغربية وسينتقل من التنظير إلى التنفيذ.
جذور الغضب الإسلامي
حينما أخذ سعيد يرد على هنتغتون صاحب أطروحة “صراع الحضارات” كان يعلم جيدا بأنه سيخوض مواجهة كاملة وشاملة مع الأب الروحي لتلك النظرية التي استقاها منه هنتغتون أصلا، والمقصود به برنارد لويس عراب الاستشراق الكولونيالي الكامل، النقيض الحرفي لفكر سعيد، والذي كان قد أطلق عام 1991 مقالته الشهيرة “جذور الغضب الإسلامي” لتصبح مصدر إلهام لجميع مفكري الصراع والصدام، لا بل ذهبت كتب الأخير إلى مدى أبعد لتكون أناجيل تأسيسية لطائفة سياسية صاعدة ببروز تسمى “المحافظون الجدد” والتي باتت تمسك بخيوط اللعبة في العالم بشكل واضح وتتجلى تطبيقات نظرياتهم في الشرق الأوسط خصوصا.
برنارد لويس إذا هو الخصم الفكري لسعيد، وهو الخصم الأساسي لكل مفكر جيوبولتيكي غربي يحاضر في الحضارة الشرق أوسطية وتاريخها ومستقبلها، هو رجل القرن في ما يتعلق بهندسة صعود وهبوط بلدان ومدن وحضارات.
وهذا الرجل الخطير الذي ولد في لندن عام 1916 لأسرة يهودية محافظة من الطبقة الوسطى، عرف بولعه باللغات والتاريخ منذ سن مبكرة. إذ اهتم بدراسة اللغة العبرية ثم انتقل لدراسة الآرامية والعربية، واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية. وهي لغات لا يمكن من دونها دراسة الباطن الحقيقي للشرق الأوسط ما دامت تضمر في متونها وأعماقها أسرارا لا يعلم الغرب عنها إلا ما يتم نقله من باقي اللغات.
لويس عمل أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة لندن، وعبر خدمته في الاستخبارات البريطانية التي أداها في بلدان الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية، نهل الكثير من المعارف التي ولدتها تلك الاحتكاكات المباشرة بالإنسان المشرقي العربي والتركي والفارسي، فدرس الأقليات دراسة تفصيلية، وانكب على محاولة فهم الذهنية العربية وآليات تفكيرها ومعالجتها للواقع السياسي العالمي وتغييراته.
حينما وصل لويس ببحثه إلى نتيجة مفادها أن المشكلة الذهنية العربية ضاربة في القدم والتجذر في التاريخ، قرر العودة إلى الأصول ودراسة تاريخ المنطقة دراسة تحليلية مفصلة، بدءا من مراحل ما قبل الإسلام، وحلل عوامل نهوض المنطقة مع الإسلام، وتأثير انتشار هذا الدين على باقي الأديان والطوائف والملل، وكيف أثرت تلك الشرذمة الدينية على تكوين العقل الباطن للجماعات والفرق؟ وكيف تنظر إلى بعضها البعض؟
العرب والصفعة الحضارية
كانت تلك الفترة من حياة لويس مشبعة بتفاصيل التوراة وقصص العهدين القديم والجديد، والنظريات السوداء حول الحروب الصليبية، ومسألة عدم فهم العرب بشكل أساسي للصفعة الحضارية التي طالتهم منذ نشوء الدولة العثمانية وحتى سقوطها، وغيابهم عن المشهد السياسي العالمي.
استقرأ كيف أثر فشل الحملة العثمانية على فيينا في 1683، وهو ما شكل بداية تهافت الحضارة الشرقية في مقابل صعود الحضارة الغربية. فبعض الزعماء والقادة والمفكرين والأئمة، عزوا فكرة التهاوي الشرقي إلى غياب مثيل القوة العسكرية التي يمتلكها الغرب، فعملوا على بناء جيوش ومعامل عسكرية كتلك التي بناها محمد علي باشا.
ولكن التفوق الغربي بقي قائما. فعلل الزعماء فشل العرب في استعادة مكانتهم، بضعف الاقتصاد والتجارة، فعمل البعض منهم على تعزيز القوة الاقتصادية وتحقيق كفاف للشعب، لكن الحال لم تتغير. وأخيرا جزم المفكرون والتقدميون بأن السبب هو النظام التعددي الانتخابي الذي يمنح الغرب تلك الميزة في التقدم، فقامت ثورات ونهضت انتخابات يسميها أصحابها ديمقراطية، في إيران والعراق والجزائر ولبنان، وحتى مصر.
وعلى الرغم من كل ما سلف من محاولات بذلت في الشرق، ظل التفوق الغربي مسيطرا من دون أي بادرة على إمكان حدوث تقدم لدى العرب، الذين باتت تلك المسألة عقدة نفسية هائلة تشل تقدمهم، على حد قول لويس نفسه، وقد استغلتها بشدة التيارات الإسلامية والقومية لتنقض على المجتمعات العربية رافعة شعارات تحريضية عدائية تجاه الغرب، فطالما أنت تعجز عن نيل مرادك فيمكنك على الأقل تدميره.
وصل لويس إلى تلك النظرية بعد عشرات السنين من الدراسات التي انطلقت من دراسته للتراثين العربي والإسلامي عموما وبعد أن أنتج عشرات الكتب، منها “أصول الإسماعيلية”، “العرب في التاريخ”، “الإسلام في التاريخ”، “اكتشاف المسلمين لأوروبا”، “الإسلام من النبي محمد إلى الاستيلاء على القسطنطينية” و”العرق والعبودية في الشرق الأوسط: استقصاء تاريخي”.
عنف التيارات الإسلامية
يضاف إلى تلك الأعمال اهتمامه الشديد بعنف التيارات الإسلامية وقدرتها على تحقيق فكرة إفناء نفسها من أجل إفناء خصمها. تلك الفكرة سيطرت تماما على ذهنية لويس ويبدو أنها أرعبته بشدة وبثت لديه قلقا كبيرا بدأ مع كتابه الكبير “الحشاشون فرقة متطرفة في الإسلام“، وصولا إلى تأسيسه فكرة “الإسلاموفوبيا” وتكريسها لدى الدارسين والطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة.
انتقل برنارد لويس للعيش في الولايات المتحدة بعد انفصاله عن زوجته الدنماركية التي كانت تمتلك شبكة علاقات واسعة بالأوساط اليهودية في أوروبا. تلك الطبقة التي أنكرته وقررت التضييق عليه فغادر إلى الولايات المتحدة التي رحبت به كمفكر كولونيالي يناسب نزعتها التوسعية والنيوكولونيالية المتشكلة في بدايات السبعينات. وكانت روث هيلين قد طلبت الطلاق منه بعد افتضاح أمر علاقته الغرامية مع أميرة عثمانية من الأسرة الحاكمة الهاربة من إسطنبول تعرف عليها في باريس.
ومن سجل حياته نعرف أن تلك العلاقة تحولت إلى قصة حب طويلة كانت لها جذور تداعب خيالاته المرضية الإمبراطورية التي تبرر استثناءه للنموذج التركي من شمولية المأزق الإسلامي، حتى أنه في فترات لاحقة أنكر المذابح الأرمينية وصحح تصريحات سابقة له، قال فيها إنها “أعمال عنف ذهب ضحيتها أتراك وأرمن من ضمن أحداث الحرب العالمية الأولى”، فحوكم على ذلك في باريس وحكم بإدانته وتغريمه مبلغ فرنك فرنسي واحد ضمن عقوبة رمزية.
ولكن لويس الذي نسج طوال حياته شبكات من العلاقات مع رؤساء وقادة من الغرب، أبرزهم غولدا مائير التي كانت معجبة به إلى حد كبير، وصل في الولايات المتحدة إلى ما أراده المعلم أرسطو من القائد العسكري الذي كان يتتلمذ لديه الإسكندر المقدوني.
فالرجل كان يملك من الفكر والعلم والأبحاث ما جعله يصدر خرائط ونظريات حول تكوين وتشكيل العالم كما يراه هو، لذا عمد سنة 1983 إلى طرح إحدى نظرياته حول إعادة تقسيم الشرق الأوسط، بناء على دراسة طويلة وممنهجة كان قد قام بها طوال عقود، أفضت إلى خلاصة مفادها أن سكان تلك البلاد عبارة عن قبائل وطوائف لا تمتلك أي رابط قومي أو وطني يجعلها تبني دولة حديثة حسب المفهوم الغربي المعاصر، وأن تلك الدول جميعها ابتداء من الصين ووصولا إلى شرق أوروبا والمحيط الأطلسي، ليست سوى نتاج تدبير غبي قام به الغرب الأرعن عبر عدد من الاتفاقات السياسية مثل اتفاقية سايكس بيكو منتهية الصلاحية، واتفاقيات فصل القوات بين الهند وباكستان، واتفاقيات نهاية الحرب العالمية الثانية التي شكلت الصين وجنوب شرق آسيا، وأن تلك الاتفاقيات جميعها باتت منتهية الصلاحية ويجب على الغرب المبادرة مجددا بإعادة تشكيل العالم وهندسته حسب مصالحه ورؤيته إلى المستقبل البعيد.
قد تبدو هذه الرؤية والنظرية مؤامراتية وخارجة من الكتاب الخرافي “بروتوكولات حكماء صهيون” الذي يعشقه أصحاب نظريات المؤامرة. لكن المدهش في الأمر أن الكونغرس الأميركي صدق على تلك الخرائط والنظرية ووضعها في أدراج مكتبة الكونغرس سنة 1983، لتخرج إلى النور، بعد ذلك بعقد تقريبا ونتيجة لتلاقح فكر لويس وحنكة هنري كيسنجر المدهشة، طبقة من الحكام الجدد للإمبراطورية الأقوى في العالم، الولايات المتحدة.
تلك الطبقة الجديدة التي أطلقت على نفسها اسم “المحافظون الجدد” التي نجحت في استلام السلطة السياسية بعد عقود من حضور سياسي لها في الكونغرس. وتزامن وصول هذه الطبقة من المحافظين إلى رأس الهرم حينها مع نهوض أفكار لويس المكرسة للصدام والصراع ونشره مقالته الشهيرة الثانية حول قراءته لإعلان تنظيم القاعدة الحرب على الولايات المتحدة. كان التوافق بين الطرفين لزاما تاريخيا لنهوض إسكندر مقدوني جديد يغزو العالم مشحونا بفكر أرسطو ما بعد حداثي يدعى لويس.
لا تفاوض مع إيران
كان تلامذته النجباء يرددون في أصقاع القاعات الدولية جملا كان قد أطلقها في كتبه وأبحاثه، مثلما فعل جورج بوش الابن الذي كان يتنقل في إحدى المرات حاملا كتابا للويس، وبول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد اللذين قادا غزو العراق وأفغانستان، وطبعا مستشارة الأمن القومي الأميركي في عهد بوش الابن، كوندوليزا رايس التي أصبح مصطلحاها الشهيران “الفوضى الخلاقة” و”رسم الحدود بالدم“، دستورين يطبقان على أرض الواقع في الشرق الأوسط الممتد حتى اللحظة الراهنة. وهي، حرفيا، أفكار مقتبسة من كتب لويس.
ومع ازدياد الثقة السياسية بأفكاره بات لويس متشددا ومتشبثا برؤيته الاستشراقية للشرق دون أن يجري أي تمييز بين معتدل ومتشدد، أو ليبرالي أو محافظ. فعندما سئل في جامعة هارفرد: هل يجب أن نتفاوض مع نظام آيات الله في طهران؟ أجاب على الفور: بالطبع لا.
لم يتوان لويس عن الدفع بأفكاره نحو واجهة التنفيذ، وباتت جملته الشهيرة عن مصير أميركا في العراق مصطلحا عالميا، حينما نصح الإدارة الأميركية بـ”القسوة أو الخروج” بعدما تحول غزو العراق إلى مستنقع فيتنامي.
وكما يدور التاريخ في دوائر مغلقة، التفت دائرة لويس مع المحافظين الجدد حتى وصلت حد المجابهة الكاملة مع الخصم الجديد، الإسلام، وموجات الإرهاب التي ضربت العالم، مما جعله يصل حد العنصرية في تصريحاته التي شملت جميع سكان الشرق الأوسط دون تمييز “معظم المسلمين ليسوا أصوليين، ومعظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، ولكن معظم الإرهابيين في العالم اليوم هم من المسلمين”.
ومع وصول نظريته إلى جدار مغلق من الدم، المصاحب لانفجار الشرق الأوسط بشكل لا مثيل له، وظهور موجات النزوح والإرهاب والتشدد غير المسبوق إلى مستويات خطيرة، ظهرت العديد من الأصوات في الغرب تدعو إلى تجاهل نظرياته وتحجيم أثرها. وها هنا ينهض صوت إدوارد سعيد مجددا، مذكرا بأن الصراع غير صحيح بين الجهتين، وأن الطرفين الغرب والشرق، ليسا كتلة صماء عدائية يستفز واحدها الآخر، وبأن أوجه التعاون والتكامل والتشابه أكبر بكثير من أوجه الصدام الاستثنائية التي تبناها برنارد لويس عراب القرن الجديد. ولكن هل ستصل تلك الأصوات إلى أذني جون بولتون اليوم؟