برامج العلاج عن بعد.. رفاهية طبية تحتاج إلى رقابة دقيقة

الانتظار لساعات بقاعات العيادات الطبية بعد التنقل لمسافات بعيدة من أجل الحصول على الخدمات الصحية أضحى في طريقه إلى أن يصبح أمرا من الماضي، وذلك بفضل رفع الإنترنت لحواجز الزمان والمكان بين الطبيب والمريض، وتوفير الطفرة التكنولوجية لتطبيقات ومواقع إلكترونية بشكل مستمر تساعد في تشخيص الأمراض وتقديم العلاج المناسب، إلا أن هذه المميزات للتواصل عن بعد تحمل الكثير من المخاوف بسبب التشكيك في مدى نجاعتها.
يتسابق المبرمجون لتحصيل أقصى استفادة من تكنولوجيا التواصل وتبادل المعلومات من أجل تحقيق رفاهية في المجالات الخدمية، فبات مجال الطب والصحة على رأس التحولات السريعة مع انتشار تطبيقات العلاج عن بعد، بصورة تشكل تحولا اجتماعيا وطبيا مقلقا لما تحمله المسألة من تداعيات على حياة البشر.
يشكل لفظ العلاج الإلكتروني مصطلحا فريدا، لم يخرج عن إطار أفلام الخيال العلمي، اعتقادا في وجود إنسان آلي قادر على أن يحل مكان الطبيب. لكن التطور السريع للتطبيقات الذكية دفع نحو شكل آخر غير معتاد للعلاج عن بعد، وأثار تساؤلات حول مستقبل الطب.
ساهم دخول موقع وتطبيق جديد يدعى “ميدي كونسلتنت” إلى بلدان عربية مؤخرا، مثل مصر والسعودية والإمارات، في إثارة نقاشات كثيرة، لأنه يقوم بفتح قناة تواصل بين الطبيب والمريض لإجراء محادثات أقرب إلى كشف افتراضي من لقاء مباشر، ويدير خلالها الطبيب محادثة مع المريض عبر خاصية الفيديو أو الكتابة. ويستمع فيها إلى شكوى المريض ويرى نتائج التحاليل وصور الأشعة ويشاهد المناطق المصابة عبر كاميرا ثم يقوم بإرسال وصفة علاجية معتمدة لصرف الدواء المناسب.
ظهر ذلك التطبيق العلاجي للمرة الأولى في الولايات المتحدة عام 2015، وتخصص خلالها في الاستشارات النفسية والعلاج السلوكي، قبل أن يتوسع في عام 2017 ويشمل أفرعا طبية أخرى تسهل مداولتها عبر الهاتف الذكي، مثل الأمراض الجلدية وإصابات الملاعب والجهاز الهضمي. سرعان ما شكل تطبيق “الطبيب البديل” جدلا واسعا قبل أن ينتقل في الأشهر الأخيرة إلى بعض الدول العربية محملا بنفس السجال حول تأثير ذلك بالإيجاب أو السلب على المريض ومهنة الطب، والأهم المجتمع ككل.
قفزات وفجوات
خلقت ثورة التواصل الاجتماعي وقاطرة التكنولوجيا كيانا متشابكا وفريدا، أعاد تشكيل الكثير من النظم والمجالات الحياتية، مثل التوظيف والصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية. واستهدفت ثنائية التكنولوجيا ومنصات التواصل مجال الطب بشتى فروعه كمجال أساسي ومتطور لتيسير حياة البشر وإضفاء المزيد من الرفاهية.
غير أن مسألة العلاقة بين الطبيب والمريض لكشف افتراضي تحولت إلى قضية احتاجت الكثير من الجرأة وشجاعة المرور بمراحل تطور متعددة قبل الوصول إلى تلك النقطة.
قبل ظهور تطبيق “كاك دو” الأميركي منذ سبعة أعوام، وهو أول كيان طبي ذكي اختص في مساعدة المستخدمين على إيجاد الأطباء المناسبين وحجز المواعيد، لم يكن معروفا أي شكل يربط بين المواقع الإلكترونية والمرضى.
صنع الموقع الأميركي طفرة في تعديل تلك العلاقة بعد أن أضفى سهولة غير مسبوقة في آلية تعامل المرضى مع الأطباء عن طريق حجز الموعد أو شكل دفع رسوم الكشف أو المتابعة الدورية. وسرعان ما نشأت العشرات من المواقع والتطبيقات المشابهة في العالم، تقدم الخدمات ذاتها، مثل موقع “فيزيتا” المنتشر في البلدان العربية وأفريقيا.
لم تتوقف رياح التغيير فقط عند تطبيق وسيلة تواصل بين الطبيب والمريض، بل دخلت العشرات من الشركات على الخط بإطلاق منصات علاجية متنوعة، مثل موقع “ميدي ساف” المتخصص في متابعة المريض بعد الكشف، والتذكرة بجرعات وأوقات الحصول على الدواء، و”أم ويل” المختص بتوفير أطباء للزيارات المنزلية، كذلك “أف.اتش” للمساعدة في شراء ومعرفة أسعار وأماكن تواجد الأدوية والمستحضرات الطبية.
مثّل موقع “هيل سييس” نقطة تحول كبيرة، باعتباره من أوائل الخطوات التي مهدت لتحول علاقة الفحص والتشخيص بين المريض والطبيب إلى تواصل افتراضي. وقدم خدمة العلاج النفسي للمرضى عبر الحديث الصوتي أو تقنية الفيديو من خلال برنامج “سكايب”.
الكشف عبر المنصات الإلكترونية أشبه بمكالمة عبر الإنترنت مع صديق يعيش في بلد بعيد؛ فهي تفي بالغرض، لكنها لا تحل محل اللقاء بين البشر
حقق الموقع وقتها نجاحا باهرا لأسباب تتعلق بالحفاظ على الخصوصية والمزيد من الأريحية، ليثير الشهية أكثر نحو تشجيع آلاف الأطباء في شتى المجالات لاتباع الوسيلة ذاتها دون حاجة لاستئجار مكان كشف أو عيادة أو حتى بذل مجهود الانتقال لزيارة المرضى.
قال حسن السيد، أخصائي نفسي يعمل بموقع “شيزلونغ” بمصر، وهو أول موقع بالعربية، يقدم خدمات طبية نفسية وسلوكية عبر منصات التواصل، “أعمل منذ عامين في مجال العلاج عبر الهاتف أو الإنترنت، وأراه فرصة عظيمة للمرضى الذين يخشون الذهاب إلى الطبيب النفسي خوفا من وصمة العار”، واصفا مواقع العلاج عن بعد بـ”النجاح غير المكتمل”.
وأوضح السيد لـ”العرب”، أن الحكم على المسألة صعب، فالعملية ما زالت في أطوارها الأولى، وأكثر ما يفتقده الطبيب خلال التعامل مع المريض عبر المواقع الإلكترونية هو الشعور الحقيقي بالتواصل.
وتابع “أهم ما يحتاجه المعالج النفسي التواجد مع المريض والشعور به على المستوى العاطفي والفكري والطبي.. وما زالت العلاقات الافتراضية تعجز عن تقديم ذلك، فالكشف عبر المنصات الإلكترونية أشبه بمكالمة عبر الإنترنت مع صديق يعيش في بلد بعيد؛ فهي تفي بالغرض، لكنها لا ترضي شغف المتواصلين، ولا تحل محل اللقاء الطبيعي بين البشر”.
مميزات ومساوئ
تتعدّد مميزات ظهور خدمات طبية عبر التطبيقات والمنصات الإلكترونية، أبرزها انخفاض أسعار الخدمة المقدمة، بعد أن ساهم توفير مكان الكشف والضرائب واستخدام المعدات الطبية، في تخفيض التكلفة بصورة تصل إلى ما بين 30 و40 بالمئة.
ويخفف الحمل على العيادات والمستشفيات المزدحمة وتوفير ساعات طويلة من الانتظار، إلى جانب سهولة الوصول إلى أطباء متميزين يقطنون في مناطق بعيدة، بعد أن رفعت شبكة الإنترنت حواجز الزمان والمكان.
اصطدم الأمر مع جدل المتاجرة بالمهنة، الأمر الذي حذر منه الخبراء، لأن تسليع مهنة الطب وتحويل الطبيب إلى تاجر يقدم خدمة سامية وهي الحفاظ على حياة البشر، سوف تكون لهما تداعيات وخيمة على حياة المرضى ومستقبل الأطباء.
أكدت عفاف المدي، طبيبة أمراض جلدية، أن انتشار فكرة الكشف الإلكتروني، خطأ فادح، وتضعف المهنة وتحولها إلى سعلة وتجعل الطبيب أشبه بعامل توصيل الطعام، والمريض مستهلك أو زبون، كما أنها تقلل من دقة التشخيص وتزيد احتمال الوقوع في أخطاء طبية.
وأشارت المدي في حديثها لـ”العرب”، إلى أن هناك أمراضا لا يمكن تشخيصها بالنظر إلى صورة أو قراءة تقرير لتحليل أو أشعة، وثمة الكثير من الأمراض الجلدية تتشابه في الشكل والآثار الجسدية، ولا يمكن فحصها إلا عن طريق اللمس والضغط عليها.
وأوضحت أن تعرض الطبيب إلى احتمال التشخيص الخاطئ، فبالتالي ينتج عنه وصف علاج غير دقيق، يفضي في النهاية إلى جعل المريض الذي يبحث عن الرفاهية المطلقة ضحية.
كشفت دراسة أعدتها جامعة “إنديانا” الأميركية العام الماضي حول تطبيقات العلاج النفسي ومنصات العلاج الموجه ذاتيا المستندة إلى الإنترنت، أنها تقلل بشكل فعال من الاكتئاب.
وقام باحثون بمراجعة 21 دراسة قائمة مسبقا تضم ما مجموعه 4781 مشاركا، وتبين أن تلك المنصات الجديدة حققت بالفعل نجاحا ملموسا في مجال العلاج والشفاء.
ولفت لورنزو لوازس، باحث شارك في الدراسة، إلى أن هذه التطبيقات والمنصات يمكن أن تساعد عددا كبيرا من الأشخاص، لأن بعض الأمراض مثل الاكتئاب تحتاج إلى متابعة دورية ومشاركة مستمرة من المريض، وبالتالي فالإنترنت قد سهلت تلك العملية.
وقال لوازس “هذا لا يعني أنه يمكن الاستغناء عن العلاج النفسي الواقعي أو أن العلاج الإلكتروني لا يحمل عيوبا، لكن ربما يمكن تطوير الأمر مستقبلا للدمج بين العلاج في الواقع وعبر الإنترنت بصورة تجمع الخصائص المميزة للمجالين”.
ورغم الدراسات التي تؤكد فاعلية العلاج الإلكتروني مع العلاج النفسي، غير أن الكثير من الأطباء يشيرون إلى استحالة تعميم التجربة على كافة مناحي مهنة الطب.
وترى المدي أنه قد تكون بعض المجالات والأمراض قابلة للعلاج عن بعد، لكن بالتأكيد غالبية الأمراض سوف يكون من الأفضل علاجها بتعامل مباشر بين الطبيب والمريض. فلا يمكن علاج الأمراض الباطنية والقلب والغدد وغيرها من المجالات الصعبة والمعقدة عبر الهاتف أو من خلال مقطع مصور، مهما بلغت قدرات التكنولوجيا ودقة التصوير والتفاعل، “البشر خُلقوا ليتفاعلوا عبر حواسهم، ولا يمكن تعويض ذلك برسالة صوتية أو جهاز متطور”.
تكمن أكبر تحديات انتشار التطبيقات العلاجية الآن في دخول طرف ثالث بين الطبيب والمريض، أي التطبيق أو المبرمج الذي بات يلعب دور الوسيط عن طريق تبادل المعلومات أو تحصيل الكشف، والأخطر ترشيح الطبيب المناسب. ويصعب في حالة التعامل مع التطبيقات والمنصات العلاجية تحقيق ثقة متكاملة عند تقديم المنصة لأسماء أطباء على حساب آخرين تحت لافتة الأفضل أو الأكثر حصولا على تقييم أو الأقرب إليك.
كما أن الكثير من المنصات تعرض على الأطباء وضع الأسماء أولا أو ترشيحها للمستخدم مقابل رسوم شهرية، ما يعني أن الطبيب أضحى في تلك الحالة مثل البائع أو صاحب المتجر الذي يحاول تسويق بضاعته، وأصبح المريض هو المستهلك الذي يرغب الموقع في الحصول على أمواله دون تقديم أفضل مستوى طبي مطروح.
ويشتكي الطبيب والمريض من خطورة الطرف الثالث الذي اقتسم ثمن الكشف مع الطبيب، ودفع المريض نحو خدمة طبية ليست الأفضل.
أين المصير

أزاحت شركة “كارديو” للأجهزة الطبية الستار مؤخرا، عن تقنية جديدة تتيح نقل البيانات الصحية من جهاز يرتديه المريض إلى تطبيق إلكتروني لدى الطبيب المعالج مباشرة.
وحصلت الشركة على موافقة الوكالة الاتحادية الأميركية للغذاء والدواء لطرح جهازين جديدين في الأسواق هما “كارديو أرم” الذي يستخدم في قياس ضغط الدم و”كارديو بيس”.
وتستطيع هذه النوعية من الأجهزة تسجيل القياسات الحيوية للجسم، مثل الوزن وسرعة نبضات القلب وضغط الدم ونقلها إلى الطبيب مباشرة من خلال تطبيق إلكتروني.
يمهد هذا التطور لدخول الذكاء الاصطناعي أكثر إلى عالم الطب، ويعتقد خبراء أن تطور المهنة ليس بعيدا عن دخول الكمبيوترات والإنسان الآلي كجزء من صناعة، وإن كانت تلك الوسائل لا تزال قيد البحث والدراسة، فمن المتوقع أن يكون التطور في المستقبل القريب يتعلق بدخول أجهزة الهاتف الذكية والكمبيوترات ضمن حساب العلاج عن بعد.
يكمن التصور المطروح حاليا في تطور الأجهزة مثل ما طرحته شركة “كارديو” لتصبح لدى الطبيب قدرة الحصول على معلومات طبية وفيرة عن حالة المريض من خلال طريق الكمبيوتر الشخصي والحصول على بصمة الإصبع أو نقطة دم أو حتى
التلامس مع المناطق الجلدية المصابة، وتحليلها وتقديم تقرير أكبر بالحالة.
ويمكن أن تتحول شبكة الإنترنت إلى خزانة كبيرة من التقارير المتاحة للأطباء في أي مكان تحتفظ بالبيانات الصحية لكل مريض، باستخدام تقنية الحوسبة السحابية، وتقوم بمعالجة القياسات الحيوية بواسطة معادلات خاصة، بحيث تقوم بتصنيف حالة كل مريض حسب درجة خطورتها أو استقرارها عن طريق إشارات لونية، ثم إخطار الطبيب بشكل مباشر إذا ما استدعت الضرورة.
وتبقى الكثير من الصعوبات في مواجهة التطور التكنولوجي العملاق وتأثيره الاجتماعي الضخم، والذي يصعب أحيانا استيعابه. وفي تلك الحالة سيكون الوقوف أمامها أو محاولة ردعها قضية خاسرة.
وهنا تبرز المسألة الفاصلة في ضرورة التناغم في المجالات الخدمية الأساسية، مثل الصحة، بصورة تسمح بأقصى استفادة من رفاهية التكنولوجيا مع الحفاظ على هيبة
مهنة الطب، ومكانتها الاجتماعية والخدمية.
وتقسّم تلك المسألة بقدر من المسؤولية المشتركة بين المجتمع والجهات التنفيذية بشكل يزيد من مستوى الحوكمة على ذلك العالم المتطور بسرعة مذهلة.