Push Message
لا تفقد استعارة "ربيع براغ" بريقها عند مصافحة المدينة وساكنيها، ستنسى كزائر من الجنوب البعيد، الظلال السقيمة للربيع العربي.

براغ: عبور السكينة

الأربعاء 2019/08/21
تمثال كافكا يتحرك يمينا وشمالا مثل مدينته

للمدن فصول مكتومة، وأخرى تتداولها ألسنة المقيمين والعابرين، لا تشبه جدرانها وساحاتها وأزقتها، يمكن أن تكون أثرا خالدا في الذاكرة، أو مجرد سوء فهم مطرد، لهذا تكتسب العواصم الشهيرة مع مرور الزمن سجايا الكائنات، من البدائية الموغلة في الفطرة إلى التوحش، في متخيل الباحثين عن أسرار، واللاهثين وراء رغائب عصية، وفتن ممتنعة، ودهشة إغواء؛ لم تكن باريس وروما ولشبونة ومدريد وبرلين والقاهرة وبغداد وبيروت والدار البيضاء، إلا سلسلة غنائم وخسارات، توغلت في خلايا الدم.

وقد تكون براغ من المدن النادرة التي من دون ادعاءات، بخصوبتها المضمرة المتراكبة، ومتعددة الأوجه، ربما أكبر استعارة لها تلك التي تمثلها المنحوتة المعدنية لرأس “فرانز كافكا” للفنان التشيكي ديفيد سيرني، بقلب المدينة، طبقات من معدن تتحرك يمينا وشمالا، في إيقاع ثابت، تماما مثلما المدينة، مبان قادمة من قعر الزمن: القلعة القديمة، دير القديسة أنيجكي تشيسكي، قصر كينسكيخ، قصر شفارزنبرغ، قصر شترنبرغ، مركز فروسية فالديشتين سوق هافالسك، المتحف الوطني الأقدم في العالم بعد اللوفر، معالم مرتحلة عبر أحد عشر قرنا، مازجة الفن القوطي بالرومانسي بالباروكي بالمعاصر، تجدد لحاءاتها دونما فواجع، من زمن الإمبراطورية الرومانية إلى الجمهورية الديمقراطية،… مرورا بمملكة آل هابسبورغ، والمستعمرة النازية، والجمهورية الشيوعية. تلملم حواسها لتعيش في الغضون والأخاديد المتغلغلة وفي الأعطاف والحنايا. لم تهدم براغ يوما، وعبرت حروب أوروبا خفيفة، إذ أدركت أن تسليم أبوابها، كفيل بأخذ غزاتها رهائن سكينتها وحكمتها وعنادها المدارى. ألم يسمّ خروجها عن الطوق الحديدي في زمننا بـ“الثورة المخملية؟”.

حين وضعت قدمي في مطار براغ أدهشني اختيار اسم “فاكلاف هافل” عنوانا مرحبا بالوافدين إلى العاصمة العتيقة، اعتبرت اختيار اسم القائد والمسرحي والمناضل، تمهيدا لدخول فضاء عجن بالسياسة والفكر والفنون، هي ليست شيئا آخر إلا ذلك المزيج المؤبد بين إرادة الحرية وتحصين الذاكرة والأثر، لهذا ليس مستغربا أن تضم بين أعطافها متحفا للشيوعية فريدا من نوعه، جنبا إلى جنب مع متاحف للفنون تضم أعمال رسامين ونحاتين اختراقيين كـ“فرانتيشك كوبكا” و“أوتا جوتفريوند”، وأن تجذب كتابا ثوريين للالتقاط النفس، لا النسيان، من ناظم حكمت إلى محمد مهدي الجواهري.

وأنا أعبر جسر “تشالز الرابع” متجها إلى جادة “تسيهيلنا”، لم تكن لوحات “كاريل فوجتش” و“ألبرت هينيس” و“الفونس موخا” هي ما يملأ ذهني إزاء الأبنية والأرصفة الناهضة على ضفاف نهر “الفلتافا”، وإنما التقاسيم الوضيئة للعابرات بشالات الشعر المنهر، ومتواليات لغة لا أفهمها، مفعمة بحرفي الكاف والفاء، كان الحس الفنطازي الساخر، القادم من روايات ميلان كونديرا، مهيمنا وطاغيا على تفاصيل وجوه وكائنات وأبنية راقصة، بدت الساحة المواجهة بعد الجسر أمثولة طباقية تجاه حاضر مسكون بالمرح ونهم العيش وجذوة الانطلاق، ومع كل لفحة ريح ندي في عز أغسطس تحس أن براغ لا يفارقها ولع الربيع، وكأنما هو زمن منغرس في تعرجات الشوارع والأزقة الضيقة وتموجات المعابر، مقيم في نسغ الكائنات. كان إيحاء الخروج من القبضة الحديدية ومن زمن الدكتاتورية والعسكر والمخابرات، إلى ما بعدها بكل عناوينه الثقافية والجمالية والسياسية مغذيا للأمل.

لا تفقد استعارة “ربيع براغ” بريقها عند مصافحة المدينة وساكنيها، ستنسى كزائر من الجنوب البعيد، الظلال السقيمة للربيع العربي، حين تهبك المدينة فرصة أن تطل على أصنام الطغاة من الحقبة الستالينية في متحف، وأن تسافر في فضائها عبر مسار اختير له اسم “فرانز كافكا”، ما بين بيت مولده، ومكتبه الحامل رقم 22 بحارة الذهب، ومتحفه الذي يضم تراثه: مخطوطاته ورسوماته (أندهش دوما أمام رسومات بدائية كل ميزتها أنها بريشة روائي) وكتبه وبعض متعلقاته وأغراضه، ورواياته بلغات شتى، ومراسلاته…، تحس، لوهلة أولى أن براغ المتصالحة مع وداعتها تُسكن الكاتب العليل في حلم نقيض، ذلك ربما ما سعى النحات ديفيد سيرني لتمثيله عبر التمثالين المتناظرين لفرانز كافكا في مدخل المتحف، ينتصب جسدان متماثلان في بركة على هيئة خارطة، وكأنما كافكا يتملى نفسه في مرآة، كان عاريا ساهم النظر إلى ذاته، متكئا بساعده إلى خصره، ولا يفعل شيئا سوى التبول، عنوان العمل الفني في النهاية هو “تبول”.

في مقطع من كتاب “الستارة” يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا “خلال إحدى زياراتي الأولى لبراغ بعد انهيار الحكم الشيوعي عام 1989، قال لي صديق عاش فيها طوال الوقت إن بلزاك هو من سنحتاجه.. فما يجعل هذه التجربة جديرة بالتصوير، هو أنها تحتفظ بالقديمة طازجة في ذاكرتها، وأن التجربتين تتداخلان، وأن التاريخ كما في عصر بالزاك، يخرج مسرحية معقدة لا تصدق”.

15