براءة التاريخ من المنهزم والمنتصر

في أي محطة من محطات البلاد، تاريخ صنعه رجال وذاكرة خطتها أجيال، والعبرة ليست في تجاهل المساوئ ونفخ الأفضال، بل في قراءة جيدة للتاريخ واستلهام العبر منه.
الثلاثاء 2024/12/24
مشهد من مشاهد الجحود والنكران

أمس مرت أربع سنوات على رحيل شخصية جزائرية قوية، تركت بصماتها على الشأن العام في محطة مفصلية عاشتها البلاد العام 2019، لكن صمت القبور يخيم على المؤسسات والشخصيات التي كانت إلى وقت قريب تهلل باسمه، وتصفه بـ “الأب” وبـ”الصدر”، وذلك مشهد من مشاهد الجحود والنكران الذي طبع الذاكرة الجزائرية طيلة عقود من الزمن.

في الـ23 من ديسمبر العام 2020، رحل الجنرال وقائد الجيش الجزائري المثير للجدل أحمد قايد صالح، بشكل مفاجئ أياما قليلة بعد انتخابات رئاسية جرت في ظروف استثنائية وأفرزت عبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد، لكن أربع سنوات فقط كانت كافية لأن يبقى من زخم الرجل إلا ذكرى معزولة، أمّا المؤسسات الرسمية والشخصيات التي هللت باسمه كأن الطير حط على رؤوسها.

وبعيدا عن التقييم والتقويم السياسي لمسارات الرجال وصناع القرار، يبقى الجحود والنكران قاعدة تطبقها المخرجات والتوازنات، وهو انتهاك صريح للذاكرة والتاريخ، فليس أحمد قايد صالح وحده من لاقى هذا المصير، بل هناك الكثير من الجزائريين من لفهم النسيان لا لشيء إلا لأن المخارج سارت عكس توجهاتهم وشخصياتهم.

لا أحد يصدق أن ذلك الرجل الذي نظم له أنصاره ومؤيدوه جنازة تاريخية، وتدفق هؤلاء من كل حدب وصوب من أجل تأبينه ورثائه، لأنه كان يمثل لهم الأمل الذي يدفع بالبلاد إلى طريق ثالث بعيدا عن “عصابات” الحكم السياسي السابق، وعن “مغامرات” فواعل الحراك الشعبي الباحثين عن التغيير الشامل والرحيل الكلي للنظام بقديمه وجديده، لكن سنوات قليلة وتحولات قائمة حولت الرجل إلى أن يكون نسيا منسيا.

أزمة كبيرة تعيشها الذاكرة الجزائرية، لأنها لا زالت رهينة حسابات المنتصر والمنهزم، فقبلها قُدّم مصالي الحاج للأجيال في ثوب “الخائن والعميل”، قبل أن يعاد له الاعتبار ويصبح “أب الوطنية”، وقبله مات ناظم النشيد الوطني الرسمي “قسما” الشاعر مفدي زكريا منفيا في تونس، وبينهما أكمل المصلح الديني والاجتماعي البشير الإبراهيمي حياته في الإقامة الجبرية بمنطقة الأغواط.

البشر ليسوا ملائكة ولا شياطين، وأيّ شخصية لا يمكن أن تحقق الإجماع، لكن من حق التاريخ والذاكرة الجماعية أن تعرف فضائل الرجال ومساوئهم، والجنرال أحمد قايد صالح، هو مهندس المخرج الذي انتهت إليه الجزائر بعد حدث مفصلي ونادر عاشته العام 2019، وبإيجابياته وسلبياته يستحق وقفة في ذكرى رحيله من طرف من كانوا يهللون باسمه، ويبكون ويرددون “رحل أبونا، لماذا تركنا”.

لا زال الجزائريون يتذكرون تصريح الوزير السابق والفاعل السياسي محمد لعقاب، لما كان يحض طلبة الجامعات على تخصيص رسائل تخرجهم لدراسة شخصية الرمز أحمد قايد صالح، لكن سنوات قليلة كانت كافية لمسح ذكرى الرجل تماما، ولا أحد يقف عند هذا التاريخ، وذنبه الوحيد ليس لأنصاره أو خصومه، بل لأن منطق المنتصر والمنهزم هو الذي حدد قاعدة اللعبة.

بمنظور التجربة السياسية، يكون الرجل الذي وجّه زخم الانتفاضة الشعبية السلمية النادرة في تاريخ الجزائر، إلى نهايات لم يصدق هو شخصيا لو عاد إلى الحياة أنه أخطأ مآلاتها، لأنها انقلبت عليه هو شخصيا في أول منعطفاتها، ومن سعى لأن يكونوا سنده، هم من يتنكرون له الآن، لكن ذلك لن يغفر للذاكرة الوطنية أن تتجاهل محطة الرجل في هرم السلطة الجزائرية، لأن بصمته بين 2018 و2020 كانت شديدة الأثر.

في أي محطة من محطات البلاد أو الأمة، تاريخ صنعه رجال وذاكرة خطتها أجيال، والعبرة ليست في تجاهل المساوئ ونفخ الأفضال، بل في قراءة جيدة للتاريخ واستلهام العبر منه، والمصالحة مع الذات هي حتمية لإرساء قواعد الحقيقة بعيدا عن ثقافة المنتصر والمنهزم.

18