بتول الفكيكي عراقية تنتقل بالمرأة من الأسطورة إلى فكرة الجسد

ما الذي تفكر فيه المرأة الرسامة حين ينصب اهتمامها في الجزء الأكبر منه على المرأة في كل أحوالها؟ يمكن أن نتذكر الفرنسية لويزا بورجوا تقابلها المكسيكية فريدا كاهلو. الأولى غاصت في الجسد بكل شهواته، والثانية نهلت من الروح لوعتها.
العراقية بتول الفكيكي تقف من حيث طريقة معالجاتها الرمزية بين الإثنتين. ذلك لأنها تنظر إلى المرأة من مكانين؛ مكان بعيد حيث تبدو المرآة أشبه بالأسطورة التي لا تظهر منها إلا أيقونتها، ومكان قريب يحتمي الجسد فيه بالطبيعة باعتبارها سلاحا تلقائيا يمكن اللجوء إليه في أية لحظة.
غزل صامت
وإذا ما كان الرسامون يحاولون إخفاء توددهم التزييني إلى الطبيعة فإن الفكيكي تشعر بالانتشاء وهي تتغزل بشجرة ترسمها في مكان غير متوقع. وهي إذ تستعير لشجرتها شكلا يعود إلى الأشكال التي تخيلها الفنان العراقي القديم فلأن الآلهة عشتار كانت بالنسبة إليها هي صورة للمرأة المثالية.
رسمت الفكيكي عشتارها المعاصرة بطريقة تشتبك المرأة من خلالها بالطبيعة بحيث يمكن تفسير النزعة الزخرفية من جهة كونها امتدادا لتلك العلاقة. المرأة والطبيعة تملكان قوة الإيحاء بالوجود الخفي نفسها.
من المؤكد أنها رأت رسوم الفرنسي الفطري هنري روسو وتعلمت منها أين تضع اللمسات الزخرفية، غير أنها بالتأكيد كانت تستعير مفرداتها من الفنان العراقي القديم.
الفكيكي تنظر إلى المرأة من مكانين؛ مكان بعيد حيث تبدو المرآة أشبه بالأسطورة التي لا تظهر منها إلا أيقونتها، ومكان قريب يحتمي الجسد فيه بالطبيعة
لا ترسم إلا وسط تأويلات الجسد المتاح. ستفكر في صورة الشرق من أجل إعادة إنتاجه. وستعمل أيضا على ترميم ثنائية المرأة والرجل. وهي التعبير الأمثل عن الاستسلام لزمن مختلف. ذلك هو الزمن الذي ينطوي على الكثير من العذابات والآلام ولن يتحقق مع الجمال باعتباره نزهة عاطفية.
رسوم الفكيكي تكشف عن تحولاتها الوجودية. ويوم كانت الآلهة عشتار كان خيالها يثني على واقعها، غير أنها حين رسمت الجسد العادي في صراعه مع الجسد الآخر تخلت عن تمسكها بالعبقرية المتاحة. صار الجمال مقيدا بالجسد الآخر. الفكيكي رسامة أساطير اكتشفت حياتها في لقاءات يومية غامضة.
اختلاف فكري مبكر
ولدت الفكيكي في “أبو صخير” بالنجف وترعرعت في الأعظمية ببغداد. تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1963. عملت لسنوات في مجال تعليم الفن في المدارس، ومن ثم انتقلت إلى العمل خبيرة في دار الأزياء العراقية. عام 1992 غادرت العراق لتستقر في لندن ولا تزال هناك.
يعود شغفها بالرسم إلى مراحل مبكرة من حياتها. كان الحدث الأهم في تلك المرحلة تعرفها على شابات يشاركنها ذلك الشغف هن هناء قاسم ومواهب الشالجي وناثرة آل كتاب. سوية قمن بزيارات لمراسم الفنانين جواد سليم وخالد الجادر وحافظ الدروبي قبل أن يؤسسن مرسمهن المشترك الذي كان بمثابة بوابتهن إلى عالم الاحتراف، حين تعرفن على المواد والتقنيات من خلال النصائح التي كان يسديها لهن حافظ الدروبي وخالد الجادر.
كان لقاء الفكيكي بالفنان الرائد عطا صبري الحدث الأكثر تأثيرا في حياتها، فصبري وجهها فكريا في حين تعلمت من الجادر الكثير من تقنيات الرسم وأسرار مواده.
وقد يكون مناسبا هنا الإشارة إلى أن الفنانة بالرغم من انتمائها زمنيا إلى مرحلة الستينات، فإنها لم تنتم إلى إحدى الجماعات التي ظهرت في تلك الحقبة ولم تكن طريقتها في التفكير الفني قريبة من الطرق التي كانت شائعة يومها.
ولتوضيح ذلك الاختلاف يمكن القول باختصار إن الفكيكي كانت تفكر بطريقة رمزية لم يعرفها الرسم الحديث في العراق من قبل. وكما يبدو فإن الأفكار التي طرحها عليها الفنان عطا صبري كان لها تأثيرها في التمهيد لذلك الاتجاه الذي لم تكن الفنانة في حينها قادرة بحكم التجربة على تمثله عمليا.
تأخرت في إقامة معرضها الشخصي حتى عام 1994 وبعده أقامت عددا من المعارض الشخصية ما بين لندن وبغداد وعمان. وبالرغم من أنها تعتبر فنانة مقلّة في إنتاجها فإنها قامت برسم عدد من الجداريات داخل مؤسسات عامة.
الجسد بين سعادته وشقائه
تقول الفكيكي “اللاوعي يدفعني إلى اختيار الجسد كونه بيتا للسعادة والألم. ثنائية المرأة والرجل أو الظل والشخص الآخر الذي يرافقهما هي شغلي الشاغل في الرسم”. تلك العبارات قالتها في وقت متأخر. بالضبط بعد أن استوعبت تفاصيل تجربتها وصارت تنظر بعينين ناقدتين إلى عملها الفني. ربما بعد أن شعرت أن عليها أن تتخلى عن الأسطورة؛ أن تبعد المرأة عن الموقع الذي يؤسطرها ويقف بينها وبين أن تكون ذلك الكائن الواقعي الذي يعبر عن مستويات مختلفة من الألم والمقاومة والكدح العاطفي.
لا تفكر في امرأة كل يوم. تظل امرأتها بالرغم من تغير أحوالها من طراز خاص. انتهت الأسطورة ليظهر الجسد؛ الانتشاء به ومقاومة رغباته وفهم قسوته والذهاب به إلى أقصى شهواته.
كسرت حدود الأيقونة ووضعت المرأة أمام قدرها باعتبارها النصف الذي يبحث عن النصف الآخر ليكتمل ولكنه لن يكون مثاليا. تلك مشكلة تعالجها بالكثير من الصبر والأناة. لم تعد المرأة تتحرك في المساحة كلها ولا ينفع السمو بالجسد عن وجوده الأرضي سببا مقنعا للرسم. فالجسد موجود لأن الجزء الآخر لا يقل عنه جمالا وقوة وغرورا. وما لم يتحد الجزءان فإن الجسد يغيب ولن يظهر باعتباره خلاصة جمالية.
ولكن ما حكاية الظل أو الشخص الثالث؟ يُخيل إلي أن الفنانة تود أن تروي حكاية ما ولكن صمت الرسم يمنعها من القيام بذلك. تلك حكاية يمكن أن تفسد أسلوبها التعبيري.
لا تكتفي الفكيكي بالجسد باعتباره بيتا للسعادة بل تجرب أن تقف في المكان الذي يمكنها من خلاله أن تنقب عن أسباب الشقاء. فالعالم من حولها ليس سعيدا. وهي لن تخون تلك الحقيقة.
تُسعد النظر وتُربك العقل
عام 2007 أقامت الفكيكي معرضا شخصيا في عمان بعنوان “الرسم بالكلام المباح” قالت معلقة عليه “تمكنت من الرسم المباح المفعم بالحب والسلام والفجيعة والقهر والاستلاب حيث أشخاصي تومئ لكنها لا تبوح”. ذلك المعرض كان خلاصة تجربتها وهي التي حافظت على استقلالها الأسلوبي والفكري.
لا يمكنها الادعاء بأنها تمكنت أخيرا من الجسد، ولكنها أخيرا جعلته قادرا على الإيحاء بطريقة ترضيها. لقد تمكن من الإمساك بكل تفاصيل تجربته. تلك التجربة التي عذبتها وهي تطارد تفاصيلها لكي تعيدها إلى الأصل وتستعين بها من أجل أن تروي حكاية من غير كلمات. بتول التي سبق لها وأن اخترعت حدائق أملا في العثور بين ثناياها على الفكرة الخالدة عن المرأة الأسطورة صارت تنتظر ولادة الفكرة النقيضة التي تقربها من الجسد كونه الجسر الذي يقود إلى الحب الناقص.
هنا بالضبط يتجلى معنى “الشخص الثالث”. سيكون كل متلق بمثابة شخص ثالث. بل إن الرسامة نفسها يمكن أن تكون ذلك الشخص. وهو ما يتمناه أي رسام؛ أن يكون مشاركا في لوحته بعد الانتهاء منها.
لقد بنت الفكيكي تجربتها على أساس أن تكون المرأة هي القضية غير أنها اكتشفت مع الوقت أن ذلك لا يكفي لكي يعبر الرسم عن كفاءته فانتقلت إلى فضاء الجسد الذي أدهشتها أسئلته الوجودية فصارت تتماهى معها بحيث نسجت منها صورة عالمها التي استطاعت أن تبتكر من خلالها أسئلتها الخاصة بالجسد الذي يومئ ولا يبوح. الفكيكي رسامة نضرة، حيوية رسومها تُسعد النظر بقدر ما تُربك العقل.