باكّا.. فنان فرنسي يمزج بين الفوتوغرافيا والتشكيل منتصرا للذاكرة

باكّا يبحث في أعماله عن التقاطع بين التصوير الفوتوغرافي والرسم كمقياس لعلاقة الإنسان بالزمان والمكان.
الاثنين 2021/03/29
قارات مبعثرة على خارطة العالم الرقمي

معرض آخر برمجته غاليري أوروبا بباريس منذ سبتمبر الماضي إلى غاية أبريل القادم للفنان الفرنسي بنيامين باكّاراني الذي يمزج الصور الفوتوغرافية والفن التشكيلي في لوحات بديعة، يتحوّل هو أيضا إلى معرض افتراضي يشاهده الهواة عبر يوتيوب.

الفرنسي بنيامين باكاراني الشهير بـ”باكّا” هو نجم صاعد في الفن المعاصر، يعيش ويعمل حاليا في جنوب فرنسا، وقد حاز شهرة عالمية رغم أنه لم يتجاوز بعد الثلاثين من عمره.

بدأ رحلته الفنية قبل بضع سنوات في سان فرانسيسكو، حيث درس التصوير التجاري في أكاديمية الفنون. وخلال فترة دراسته أحسّ بالحاجة إلى القطع مع المشاريع التجارية، فتعلم الرسم والفن الزيتي رفقة فنانين آخرين التقى بهم في سان فرانسيسكو، ثم بدأ يبتعد شيئا فشيئا عن الوسط الرقمي لاستكشاف عمليات التصوير التقليدية والبديلة.

كان عمله يحوم حول العلاقة بين الأشخاص والصور، وإن شئنا الدّقة، بين الصورة الفوتوغرافية والذاكرة، لاعتقاده أن الصور في المطلق والصور الفوتوغرافية تحديدا يمكن أن تعمل عمل “كبسولات ذاكرة”.

ولكن مع تعميم الإنترنت جماهيريا بداية من التسعينات ساهمت وسائل الاتصال في نشر التصوير الرقمي، ثمّ جاءت المخترعات الرقمية وخاصة السمارتفون المجهّز بآلات تصوير لتخلق “ثقافة الفوري” التي ولّدت تبعية للتصوير في شتى أنحاء العالم، حيث يؤكّد الخبراء أن ثمة نحو 95 مليون صورة تنشر كل يوم على منصّة موقع اجتماعي، غير أن عمر كل صورة لم يعد يتجاوز أكثر من إحدى وعشرين ساعة، قبل أن تُوارى في المقبرة الرقمية التي باتت تلتهم كلّ شيء.

الفن الذي يبدعه باكّا غريب وحسّاس في الوقت نفسه، وهو يقع على الحد الفاصل بين التصوير الفوتوغرافي والتجريد

يقوم عمل باكّا على استعادة تلك الصور ومنحها فرصة انبعاث كي تحيا من جديد، وإن في أشكال فنية مستحدثة. غايته من هذا العمل متعدّد السّمات التأكيد على أن الجوهر الميتافيزيقي للإنسانية لا ينفصل عن الأيقونوغرافيا (دراسة الأيقونات) الإنسانية.

ولذلك فهو غالبا ما يستعمل الأساليب الفوتوغرافية البديلة، والتقنيات المزدوجة، وتقنيات الاشتغال على الخشب، لربط الصور الفوتوغرافية بين طبقات الدهن في اللوحة الفنية على نحو يجعل هذا العنصر ملتحما بعنصر آخر، أو طاغيا عليه. وبمرور الأعوام صارت مقاربته الفنية تتميّز بتهجين واضح بين الوسائط.

في عصر جرّدت المواقع الاجتماعية ومنطق الآنية الصّور من وظيفتها الأولى، سعى إلى خلق لقاء في أعماله التي لا تخضع لخطّية زمنية بين الرقمي والمادية في بعض الوسائط، بين الكولاج والرسم الزيتي وأساليب السحب القديمة، ليبيّن ما تردّت إليه الصورة الفوتوغرافية.

نكتشف في معرضة الحالي المقام في غاليري أوروبا بباريس كتلا من ألوان البوب والباستل تعكس آثارا ملتبسة وملغزة. فلئن بدا لبعضهم أن في لوحاته موتيفات تجريدية، يرى غيرهم قارات مبعثرة هنا وهناك وكأنها صور عن خارطة العالم الجغرافية والطبيعية.

ولكن إذا أمعنا النظر فيها عثرنا على وجوه وعناصر ديزاين ومادة من المواد الاستهلاكية المتداولة، ومعلما من المعالم المعروفة، فتبدو كلها مثل ذكريات قديمة تعود إلى الذاكرة. وتلك مقاربة باكّا الفنية، فهي تقوم على الاشتغال على المادة كطبقات متراكمة تمحي تحتها الصور تدريجيا تحت طبقة سميكة من الطلاء فلا تظهر إلاّ غائمة أو مترجرجة، حال لونها بفعل عوامل الزمن، لتبدو اللوحة لديه مثل مشهد ثابت ينعش الذاكرة وينقذها من النسيان.

Thumbnail

ولئن كان الفنان الفرنسي من جيل المجتمع الرقمي، فإنه يطمح أيضا إلى التعبير عن عالم متسارع يغمر الناس كل يوم بمئات الملايين من الصور على المواقع الاجتماعية، ولكنها سرعان ما تضيع في غيابات العالم الرقمي، فلا يعودون إليها، بل لا يجدون الوقت أمام تدفّق الملايين من الصور الجديدة كي يسترجعوا لحظات مرّت. فما إن تلتقطها الأجهزة الحديثة الذكية حتى تدخل في عالم الأشياء المنسية أو المتروكة أو المهملة. ولذلك كانت أعماله هجينة، تخلط الرسم الزيتي بالنحت والتصوير الفوتوغرافي.

وبصرف النظر عن الميزات الجمالية للوحاته، يحاول المشاهد أن يفكّ شيفرة الصور المتشظية، المستخرجة من مهملات العالم الرقمي، تلك التي بدا أن الفنان يوقظها بعد طول سبات. ذلك أن باكّا يُعيد إلى الذاكرة صورا منذورة للنسيان. كما في سلسلة “الهروب من ثقب الباب”، حيث جمع بين الأكريليك والكولاج وكأنه يروز الثقافة الرقمية من خلال مزق من الصور، ليشكل نوعا من رسوم الزلازل الملونة، تبدو فيها حتى صورته هو.

كذلك سلسلة “نيستاغموس” (اختلاج المقلة) التي استعمل فيها تقنية “سيانوتيب” وهي تقنية وضعها العالم الفلكي الإنجليزي جون فريديريك هرشل عام 1842، وتتميّز باستخدام الأزرق المخضرّ في التصوير الفوتوغرافي الذي يعطي طابعا شبحيّا للصور المسحوبة.

إن الفن الذي يبدعه باكّا غريب وحسّاس في الوقت نفسه، وغالبا ما يقع على الحد الفاصل بين التصوير الفوتوغرافي والتجريد. وذلك متأتّ من تمازج الفن الرقمي والفن الملموس الذي اختبره في بداية مغامرته الفنية. في أعماله بحث عن التقاطع بين التصوير الفوتوغرافي والرسم كمقياس لعلاقة الإنسان بالزمان والمكان. وفي عالم يتميّز باجتياح الصور كل الفضاءات العامة والخاصة، يطرح باكّا علاقة مجتمعنا بالصور وإحساسنا المعاصر بالجمالية.

16