باسم صالحة لـ"العرب": لدينا تراكم موسيقي يمكننا من خلق شيء مبتكر

في حفل فني موسيقي أقيم في دار أوبرا دمشق حديثا، حضر مجددا موضوع تحديث الموسيقى العربية، والبحث عن طرق جديدة في إيجاد لغة عصرية تقدم الموسيقى العربية بطروحات تمزج القديم بالجديد وتزاوج بين الموسيقى الغنائية والآلية وكذلك في البحث عن أساليب لتطويع الآلات الغربية للموسيقى العربية. آلة الكلارينيت كانت بطلة الحفل في عزف الموسيقي باسم صالحة الذي قدمه بمناسبة ذكرى رحيل الموسيقار محمد عبدالوهاب. وكان عنوان الحفل "الكلارينيت تغني عبدالوهاب".
قدم العازف باسم صالحة في الثالث عشر من مايو الجاري حفلا موسيقيا في دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) بعنوان "الكلارينيت تغني عبدالوهاب"، قدم فيه بحثا وتجربة موسيقية متقدمة في موضوع الموسيقى العربية والتحديث فيها. شاركته في ذلك المغنية الشابة لبنى نفاع، وهي طالبة في السنة الخامسة في المعهد العالي للموسيقى وقدمت أغنيتي "كل ده كان ليه" و"في يوم وليلة" من ألحان محمد عبدالوهاب.
وشارك صالحة في العزف كلّ من باسم الجابر غيتار باص ويزن الجاجة غيتار كلاسيك ونادين تقي الدين غيتار كهربائي ويزن صالحة بيانو وميشيل خياط درامز وهوشنك حبش ساز وراغب جبيل إيقاع شرقي وعمران أبو يحيى بيركشن. وقدمت في الحفل مجموعة من أشهر ألحان محمد عبدالوهاب منها أمل حياتي وفكروني والدنيا حلوة وأبجد هوز، التي ترك فيها باسم صالحة مساحات إبداعية ارتجالية لكل الآلات التي قدمت على التتالي أداء منفردا تميز بالتكنيك العالي والمبهر، كما قدم مقطوعة موسيقية من تأليفه بعنوان حزن.
أصالة وتحديث
دائما ما تثار مسألة الحداثة في الموسيقى العربية وضرورة مواكبتها للعصر، سواء من حيث بنية التلحين الموسيقي أو أشكال الموسيقى التي تظهر بها على الجمهور، ومرت الموسيقى العربية في تاريخها بالكثير من المحاولات التجديدية التي أكسبتها مواقع متقدمة وأشكالا مغايرة لشكلها التقليدي القديم.
مع بدايات القرن العشرين دخلت الموسيقى العربية طور التجديد. وأوجد عديد من الموسيقيين أشكالا موسيقية مختلفة. وكانت لحركة التجديد الموسيقي في مصر مكانة هامة عربيا، وظهرت أسماء تجاوزت بتأثيراتها مصر لتصل إلى مختلف أنحاء الوطن العربي.
ويبرز اسم الموسيقار محمد عبدالوهاب في شكل تطويري هام قدم من خلاله أطروحات جديدة متبارزا فيها مع موسيقار مطور آخر هو فريد الأطرش. فقدم عبدالوهاب إيقاعات موسيقية غربية جديدة كما في لحنه الشهير جفنه علم الغزل.
على رأس هؤلاء يظهر الموسيقار سيد درويش الذي أوجد أساليب الغناء الشعبية ذات المعنى الاجتماعي وعمل على تطوير قالب الدور، ثم كان محمد القصبجي الذي أوجد شكل المونولج الغنائي العربي الذي عرف شكله في أوروبا، كذلك وجد شكل الطقطوقة.
كما أدخل الآلات الغربية الكهربائية. مثل الغيتار في أغنية أنت عمري لأم كلثوم. وأوجد شكلا جديدا في تقديم الأغنيات الطويلة الطربية التي تسبق بمقدمات طويلة نسبيا. كما قدم موسيقى آلية صرفة في العديد من المعزوفات التي صارت شهيرة كما في عزيزة ورقص الهوانم وعمر الخيام وحياتي.
تطوير على تطوير
كانت موسيقى محمد عبدالوهاب ملهمة للعديد من الموسيقيين العرب لكي يتابعوا مشوار التجديد الذي بدأه في موسيقاه، فتناولوا أعماله القائمة على التجديد أصلا بروح التطوير العصري، فوصلوا إلى أماكن بعيدة في طروحات موسيقية غريبة لكنها تحمل الكثير من التميز والتشويق.
من هذه التجارب ما قدمه الموسيقي السوري باسم صالحة وهو الذي درس الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى بدمشق، ويعزف على آلتي البيانو والكلارينيت. صالحة قدم منذ سنوات مشروعا موسيقيا يعتمد على تقديم حالات إبداعية جديدة في الشكل الموسيقي.
وبحكم مشاركته كعازف منفرد مع أسماء غنائية شهيرة مثل جورج وسوف وميادة الحناوي ومروان خوري وكارول سماحة وغيرهم امتلك القدرة على التعرف على أنماط وأشكال موسيقية رائجة وتحسس مزاج الجمهور العام.
باسم صالحة يقدم منذ سنوات مشروعا موسيقيا يعتمد على تقديم حالات إبداعية جديدة في الشكل الموسيقي
يرى باسم صالحة أن الموسيقى العربية يجب أن تخضع دائما لعملية التطوير، ويؤكد أن آلة الكلارينيت التي هي آلة غربية تمتلك قدرات كبيرة في تقديم موسيقى شرقية قريبة من المزاج الشرقي. فمن خلال مؤلفات محددة ومعالجات مبتكرة يمكن لهذه الآلة تطويع جمل موسيقية محددة تقدم من خلالها موسيقى جديدة وعصرية.
وفي حديثه لـ"العرب" يقول صالحة "درسنا في الموسيقى الكلاسيكية قالب الكونشيرتو، وهو يقوم على تقديم آلة منفردة مع الأوركسترا، وبشكل مقارب قدمت معزوفات لمحمد عبدالوهاب على آلة الكلارينيت، فكتبت الموسيقى الأساسية لها وتخللتها أحيانا جمل موسيقية لآلة الساز".
ويضيف "عملت على إيجاد شكل جديد حيث عزفت الكلارينيت جملا لحنية وأحيانا غنائية، وعملت على إيجاد توزيع جديد وأكوردات إضافية وفق تجديد هارموني، لآلات معينة منها الغيتار البيس وأوجدت شكلا هارمونيا جديدا وكذلك نمطا موسيقيا يجاري شكلي البلوز والجاز، فكانت هنالك جمل غريبة ومعقدة أحيانا، وهذا شكل لم يكن موجودا حتى مع الفرقة الماسية التي كانت تنفذ أعمال الموسيقار محمد عبدالوهاب، فالهارموني حينها كان بسيطا لو وجد أصلا. كانوا يقدمون شكلا موسيقيا أقرب للتخت الشرقي". ويتابع صالحة "الموسيقار محمد عبدالوهاب كان يبتكر جملا جديدة، ومنه عملنا على الاتجاه ذاته، كوننا نمتلك الاطلاع ونعرف أشكالا موسيقية مختلفة ويمكننا من خلال ذلك تقديم ما هو مضاف وجديد".
موسيقى غنائية
عن رأيه في طبيعة الموسيقى العربية التي تعنى أولا بالغناء وتراجع الاهتمام بالموسيقى الآلية يقول الفنان السوري "للأسف الموسيقى العربية مغناة، فالجمهور يتابع الجملة المغناة، ورسالتنا تكمن هنا. فنحن نهتم بأن نأخذ الجمهور العربي إلى متابعة العزف الموسيقي الآلي. من خلال امتلاك أدواتنا وترجمة أحاسيسنا على الآلات، بالإضافة إلى كتابة موسيقى صحيحة للمرافقة وللهارموني والخلفية. وبهذا نقدم موسيقى آلية غير مرتبطة بالغناء".
يتابع صالحة "آمل أننا على القدر الكافي لكي نصنع موسيقى آلية نقدمها للجمهور الذي يتذوقها. لا شك أننا في هذا التوجه نمتلك جمهورا متابعا، لكنه بالتأكيد لا يقارن مع جمهور الغناء، فهو أضعاف جمهور الموسيقى الآلية، فجمهورنا عربيا تعود على أن تكون الموسيقى مرافقة للغناء".
آلة الكلارينيت التي تعتبر غربية تمتلك قدرات كبيرة في تقديم موسيقى مختلفة قريبة من المزاج الشرقي
ويختم صالحة "نحن اطلعنا على كل أنواع وأطياف الموسيقى. اليونانية والبلقانية والتركية والعربية والبلوز والجاز وغيرها. ومن خلال هذا التراكم صار لدينا مزاج موسيقي، يمكنه صناعة شيء جديد مبتكر، وهو الأمر الحاسم الموجود في الموسيقى كأي شيء في الحياة يستلزم أن يتطور باستمرار. والذي يبدو أن النتائج جيدة ومبشرة، لأن ما نقدمه يتابعه الآلاف وهناك مهتمون به، في حفلاتنا نقوم بالبث المباشر ونجد الكثير من المشاهدات والمتابعات التي تشير إلى أننا نسير في الاتجاه الصحيح".
وعن ضرورة التحديث الموسيقي والتطوير الذي يجب أن تقدمه كما في تجربة الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي قدمت موسيقاه في الحفل، يقول “تجديد محمد عبدالوهاب كان واضحا، فهو أخذ من موسيقات عديدة بحكم اطلاعه عليها. والملحن لن يستطيع التجديد لو لم يسمع موسيقى مختلفة من كل الأطياف والألوان. والموسيقي صاحب رسالة يقدمها للجمهور وتستلزم منه أن يطلع دائما على المختلف موسيقيا، مثل الشاعر الذي لن يستطيع أن يقدم شعرا لو لم يكن مطلعا على نتاج من سبقوه في كل العصور".