باريس تحتفي بيان سيفرستن عاشق الألوان ومُربكها

أعمال الدانماركي يان سيفرستن تحوي مقاربة حديثة يعالج من خلالها العلاقة بين الرسم كتمثيل والرسم كأداة.
الاثنين 2018/09/17
تصوير فريد وتجميع معقد يسوده اللون

لم يكن المعرض الذي أقيم للفنان يان سيفرستن في “دار الدانمارك” بشارع الشنزيليزي الباريسي استعاديا رغم احتوائه على بعض أعماله السابقة، بل هو معرض تركز على عملية الرسم بوصفها لغة غير منطوقة، لا سيما في أعماله الأخيرة التي أنجزها منذ مطلع الألفية.

احتضنت “دار الدانمارك” بالعاصمة الفرنسية باريس معرضا بعنوان “حقل ألوان” للفنان الدانماركي المعاصر يان سيفرستن، الذي سارع النقاد بوضع فنه في خانة التعبيرية التجريدية، والحال أن عمله يحوي مقاربة حديثة عالج من خلالها العلاقة بين الرسم كتمثيل والرسم كأداة، بين فن التصوير والفن كحضور مادي صرف للون والمادة.

انطلاقا من أعمال سابقة، وضعت في موازاة سلسلة من الأعمال الحديثة، يقترح المعرض ملامح من تجربة سيفرتسن، التي تميزت في بدايتها بتعبيرية مخصوصة تشمل عناصر تصويرية وعلامات ورموزا خفية إلى جانب ألوان طاغية منتقاة بعناية، ثم انتقلت إلى أنماط أخرى مختلفة في شكلها ومضمونها، مع الاحتفاء الدائم بالألوان.

ولد يان سيفرستن بفريديريكسبرغ بالدانمارك عام 1951، وتعلم أصول الرسم في متحف الحجر المنقوش والمنحوتات في ني كالسبرغ، ثم التحق بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بكوبنهاغن من 1977 إلى 1982، حيث تتلمذ على أيدي الفنانين التشكيليين سفين دالسغارد، وألبرت ميرتز، والنحات روبرت جاكبسن، انتقل إثرها إلى باريس حيث تابع دروس زاو ووكي في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية، وقرّر الإقامة بها منذ ذلك التاريخ.

وخلال تلك المرحلة، انتقل تدريجيا من الرسم إلى الألوان، وبدأ عرض أعماله في الأروقة والمتاحف والمؤسسات الثقافية الدانماركية، وغير الثقافية كالمستشفى المركزي بهرنينغ ومطار ميدتيلاند، من بينها أعمال على الزجاج بالتعاون مع الاختصاصي بير ستين هيبسغار.

إن أول ما يجلب الانتباه في اللوحات المعروضة هو التفاعل بين التجريدي والتصويري، على غرار آخر لوحات كلود موني، ولوحات الألماني دانيال ريختر في مرحلته المتأخرة، فالألوان القوية والأضواء المتذبذبة تنعش الحواس لأول وهلة وتغذي الفكر، بفضل إبداع متكامل سواء من جهة الشكل أو من جهة المضمون.

ذلك أن فن سيفرستن لا يقتصر على صور متعارفة، تنجز زيتيا على الخشب أو القماشة أو الورق، بل غالبا ما يختلط بعالم متأجج ذي تضاريس، يتم إنجازه بفضل تقنية مختلطة، بالزيت أو بالماء مع كولاج لصور جاهزة، وحتى مشخصات صغيرة من البلاستيك، ما يجعل صفحة اللوحة غير مستوية إلاّ في ما ندر، إذ عادة ما تختفي تحتها ضمائد من الشاش، أو صور من الورق، أو أدوات صغيرة غير متجانسة.

وأعماله الأولى في سلسلة “قَطع” (1983-1984) تذكر بالأساليب التحليلية للمجموعة الفرنسية “مساند / مساحات” التي ثارت على المحامل التقليدية في السبعينات وأولت أهميتها للمواد ولحركات الابتكار وللعمل النهائي، وأهملت الموضوع، ولكن أشياءه المرسومة تقيم علاقة خاصة مع العلامات (كالقناع) والألوان (باردة أو شمالية، أي معدنية) تبسيطية في تشكيلها، وبدائية جديدة في استعمال الرموز المقدسة.

وفي الثمانينات قام بتجارب تصويرية أخرى اعتمد فيها على حجم كبير عمودي الشكل وأسلوب تعبيري تجريدي ملون، تشوبه لمسات فرشاة تبدو في ظاهرها تلقائية، أما في التسعينات، فقد تجلت لديه إشكالية التصوير والتحريف، إذ عمد في فضاءات تسكنها الأقنعة إلى إبراز ثيمة الوجه حينا وإخفائها حينا آخر، لا سيما في أعماله التي ساهم بها في معرض أقيم بميناء لوهافر رفقة جان بول هوفتيي، وإيف زورستراسن وجان ميشيل فالان.

ولكن أروع لوحة هي تلك التي أنجزها في التسعينات، ما بين 1994 و1995 تحديدا، وهي بعنوان “جدار الرسام، أو هل ثمة حل للمسألة الفرنسية الألمانية؟”، وهي عبارة عن رسم زيتي وتقنية مختلطة على الخشب، وقد عدّها النقاد “أداة – قطعة أثاث” فريدة في شكلها، عجيبة في مضمونها لاحتوائها على مشخصات من البلاستيك، جنود وأزهار في معظمها، فهي أشبه بستار خشبي paravent  يتكون من سبع  ألواح ثلاثية، يكمل بعضها بعضا.

وقد تولّدت فكرتها لديه من تأمله في تاريخ الفن الأوروبي، لا سيما مرحلة المواجهة بين الجمالية الفرنسية (واللاتينية عموما) والجمالية الألمانية التي تمخض عنها الفن الدانماركي قبل أسغر يورن (1914-1973) وبعده، أي بين الجانب المتناسق في الصياغة واللون (ممثلا في الأزهار المقحمة في المحمل)، وبين الأيقونوغرافيا الجادة والرسم الصارم (ممثلين في مشخصات الجنود الصغرى).

أما أعماله التي أنجزها منذ مطلع الألفية، فتتميز برسوم استعارية أكثر من كونها تاريخية، لا سيما مبدأ الجمال في الفن ومصير الإنسان في هذا الكون، فقد صار يوحّد البقع التجريدية مع الكلمات والأحرف وأثر الأقدام، كما في لوحة “إلى لاكان”، ويركز على الأشكال غير المحددة، سواء أكانت لأشخاص أو لمناظر طبيعية، تلتقي جميعا في كونها تطفح بالألوان، كما يتجلى في لوحة “ليل الشاعر”.

وجملة القول إن سيفرستن يتميز بطريقة في التصوير فريدة وتجميع معقد يسوده اللون، وفاء لرسالته الجامعية التي كان أنجزها قبل خمسة وثلاثين عاما عن مبدأ التلوينية في الفن التشكيلي الفرنسي، والتي ظلت أشبه بمانيفستو عن أسلوبه وتصوّره للعمل الفني.

16