باحثون يحللون أعطاب الشعر العربي في معرض الدار البيضاء

انطلق الناقد السوري صبحي حديدي في ندوة “نقد الشعر المعاصر في العالم العربي”، التي احتضنها معرض البيضاء الأخير للكتاب في المغرب، من مستويين، يعتبرهما بمثابة ضفتين يجري بينهما ماء الشعر ونقده. مستوى يعتبر النقد مقترحا جماليا، ذلك أن النقد، حسب منظوره، إنما يقترح قراءة معينة أمام القارئ، تستند إلى عدّة معرفية ونظرية، وإلى أدوات منهجية وتحليلية في مناقشة وإضاءة النص، قد لا تتوافر للقارئ، أو لا تتاح له فرصة الاطلاع عليها. ويقدم الناقد هذه القراءة ويقترحها على القارئ، من أجل أن يتبناها، ولو سلبيا، أي أن يرفضها مثلا.
وإذا ما أحكمت هذه القراءة النقدية الأولى، يمكن أن نمرّ مع صبحي حديدي إلى المستوى الثاني، بحيث تفسح القراءة النقدية المجال أمام خط نظري قد يتحوّل -إذا كان هو الآخر موفقا- إلى مشروع نظرية أو ركيزة نظرية أو منهج. وقد استشهد المتدخل في هذا الباب بمفهوم “البديل الموضوعي”، كما ظهر عند إليوت، وهو يحلل مسرحية هاملت وشخصيته. فلقد صار هذا المفهوم قارا، وبات أداة منهجية مفيدة للغاية.
يدعونا صبحي حديدي في هذا اللقاء إلى أن نقوم بإطلالة على نقد الشعر في العالم العربي، والعالم ككل، وهو يلاحظ أن الزمن الراهن لم يعد يتيح الفرصة لرسوخ “الناقد النجم”، و”الناقد المرجعية”، على حدّ توصيفه، وهو الناقد الذي تطمئن إليه كل القراءات، وله سلطة في تحديد جودة أو رداءة الشعر، أو تقديم وعرض الإطار النظري لدراسة الشعر. مثلما حدث في كلاسيكيات الشعر العربي الحديث والمعاصر، مع شوقي ضيف وإحسان عباس مثلا.
اليوم انتهينا إلى نوع من الانحدار الشعري فكل يكتب وفق ما يشاء ومن منطلقات خاصة، في غياب الأخلاقية العالية
لهذا، ومع أفول الناقد النجم، والناقد المرجعي والمركزي، يرى حديدي أن ما يظل ممكنا اليوم هو ائتلاف جماعة من النقاد حول عدد من المفاهيم والمقولات النظرية، انطلاقا مما يمكن اعتباره قواسم مشتركة تزوّد القارئ بعدّة معرفية تسمح له بأن يطلّ بذاته على الشعر المعاصر. وهنا، يقول المتدخل “أراهن على حركة جماعية في نقد الشعر أكثر مما أراهن على مشاريع نقدية”.
من جهة ثالثة، يقرّ المتدخل بأن الشعر قد استحال إلى “فن نخبوي” اليوم. ومن هنا، يوجه دعوة إلى أهمية المراجعة، مراجعة المنجز الشعري، ويتعلق الأمر بالمراجعة الصحافية الجادة، التي لا ينبغي النظر إليها على أنها ابتذالية أو تبخيسية. ذلك أن هنالك العديد من المراجعات الصحافية المهمة في الصحف والدوريات، في ما يرى حديدي. وهنا، ينبهنا المتدخل إلى أن القارئ الغربي بات يحجز الكتاب قبل صدوره، فقط لأنه قرأ عنه مراجعة كتبها صحافي متخصص قبل ظهور الكتاب بأيام.
وهنا، يخلص صبحي حديدي إلى أن أسئلة المشهد الشعري العالمي لم تعد تطبيقية، لأن تلك الأسئلة تكاد تنحصر في القراءات الشعرية اليوم. الأسئلة الراهنة التي يطرحها المشهد الشعري اليوم تتعلق بسؤال القلق في خصوص مصير الشعر والفن عموما، مصير الشعر إزاء الميديا، ومختلف وسائل التواصل، وراهن الشعر مع طرائق القراءة الرقمية، حيث هنالك برامج تثبت لنا رقميا من هو الشاعر الأكثر قراءة، وما هي قصيدته التي قرأها أكبر عدد من القراء، وكم مدة قضوا أمامها. وهي معطيات لا يمكن أن تتوافر للناقد بالمعنى الكلاسيكي.
ويتساءل المتدخل عمّا إذا كانت الأزمة الشعرية تتمثل في معضلة قراءة الشعر أم في معضلة كتابة الشعر؟ كما ينبهنا إلى أن حرب داحس والغبراء، التي لا تزال مندلعة، ما بين الشعر والنثر، وغياب الديمقراطية في قبول الإشكال الذي ظهر مع قصيدة النثر، قد أثر على قراءة الشعر العربي إلى اليوم.
الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة تحدث بدوره عما أسماه “عطب الممارسة الشعرية العربية”، من خلال استثناءات قليلة. وهذا ما أفضى في نظره إلى “خراب اللحظة الشعرية الراهنة، وهو شيء مرير”، على حدّ تعبيره.
ومن خلال تتبعي للمشهد الشعري العربي، يقول المتدخل، “لا يعطيني هذا التتبع ذلك الانجذاب -الذي كان لي- إلى أسماء نيّرة في تاريخ الشعر العربي الحديث والمعاصر”. فالناقد المغربي ينظر إلى النقد باعتباره عملا تشاركيا. وإلا “لماذا تجدنا منجذبين إلى نصوص بعينها دون أخرى؟”، يتساءل بوحمالة.
أسئلة المشهد الشعري العالمي لم تعد تطبيقية، لأن تلك الأسئلة تكاد تنحصر في القراءات الشعرية اليوم
وبكل حسرة، يؤكد المتدخل أنه لا يستطيع أن يقارن ما بين المنجز الشعري العربي في الخمسينات والستينات، وما يُقترح علينا اليوم من نصوص راهنة “لقد انتهى العصر الذهبي لممارسة الشعرية العربية. كان كل شيء واضحا كوضوح ذلك التاريخ بتمفصلاته الكبرى”. ويستحضر المتدخل هنا تجربة السياب إلى غاية تجربة أدونيس ودرويش، تجربة جماعة بغداد في مقابل جماعة بيروت. وأمام هذه التجارب؛ يضيف المتدخل “لم يكن للنقد إلا أن يظهر ويتألق”. على أساس أن تألق الممارسة النقدية العربية كان جزءا لا يتجزأ من تألق الشعرية العربية.
واليوم، يواصل بوحمالة “انتهينا إلى نوع من الانحدار الشعري. فكل يكتب وفق ما يشاء، ومن منطلقات خاصة، في غياب الأخلاقية العالية التي لازمت الكتابة الشعرية. ومفادها أنه لكي تكتب عليك أن تقرأ للأسلاف، قبل أن تصل إلى القطيعة”. مثلما فعل بودلير، الذي تتلمذ على الممارسة التشكيلية والموسيقية، وأقفل على نفسه الباب وأعاد قراءة الشعر الغربي من هوميروس إلى فيكتور هيغو.
يرى بوحمالة أن المشكلة اليوم هي الانطلاق من الصفر في كتابة القصيدة، وهو ما ينتج نصا بلا ذاكرة، ولا شجرة أنساب. هذا فضلا عن الميوعة التي أتاحتها وسائل ووسائط الاتصال، إلى جانب “المجازر في اللغة وفي التصوير الشعري”، على حدّ توصيفه. كل ذلك في “مناخ موبوء ولا مسؤول، فما الذي يمكن أن يقوم به ناقد؟” يتساءل الناقد.
الناقد والشاعر المغربي محمد بودويك عزف على الإيقاع نفسه، معلنا أن هنالك إجماعا على الأزمة، وهي أزمة “موغلة في الشعر العربي المعاصر والنقد العربي المعاصر” سواء بسواء؛ أزمة في المصطلح، وفي القراءة، وفي المقاربة والخلفية الفكرية.
الأزمة، في ما يقوله بودويك هي “شاملة وكلية؛ أزمة نقد وشعر وفكر وتربية وتعليم وصحة وسكن، أزمة مؤسسات وأزمة ثقة، أزمة دولة في العالم العربي، وأزمة أمية طاغية وفاشية في الوطن العربي”. هذا في مقابل التغني بحداثة مجلوبة منقولة مستلفة عصيّة على الاستنبات والإقامة. ويرى المتدخل أن النقد لاحق ولا يمكن أن يسبق النص، فالنص هو الذي يعطي الكلمة للنقد.