باباراتزي في كل مكان

"إذا لقيت الزهو والطرب لا تبدلو لا بشقاء ولا بتعب"، مثل شعبي تونسي يشجع على اقتناص الإنسان لأي فرصة يجد فيها استمتاعا بالحياة والموسيقى والرقص والتجمعات السعيدة. وفي الصيف يكثر اقتناص التونسيين لهذه الفرص سواء عبر الأفراح والليالي الملاح أو من خلال المهرجانات وحفلاتها الموسيقية المتنوعة.
وقبل اكتشاف الكاميرات والهواتف المحمولة كان الإنسان يستمتع باللحظة بكامل جوارحه، لكنه اليوم يسعى لتوثيق كل لحظاته دون أي تركيز على اللحظة الحاضرة. غير أن المشكلة الكبرى لا تكمن في ذلك إنما تتعلق بانتشار ظاهرة التصوير انتشارا واسعا، وهو ما قد يجعل أي مواطن ارتاد حفلا -أو عرسا- ورقص فيه حديث صفحات السوشيل ميديا ووسائل الإعلام وفي مرمى السب والشتم والتكفير.
تحولت أغلب وسائل الإعلام التونسية إلى مصوري "باباراتزي" ومختصين في “الصحافة الصفراء”، هم لا يركضون خلف المشاهير، بل يركضون في المقام الأول من مهرجان إلى آخر كي يلتقطوا مقاطع فيديو وصورا لأشخاص يرقصون، يغنون، أو حتى ينامون خلال حفلات المهرجانات الصيفية، هدفهم من ذلك الترند وتحقيق نسب مشاهدات عالية.
الباباراتزي مصطلح إيطالي الأصل، أطلق على مصوري صحافة المشاهير وتحديدا أولئك الذين يطاردون المشاهير ويلاحقونهم من مكان إلى آخر بُغية الحصول على بعض الصور الحصرية لهم لبيعها لوكالات الأخبار والمواقع والمدونات والمجلات المهتمة بهذا الأمر، وقد يصل ثمن بعض هذه الصور إلى آلاف الدولارات.
لكنْ في تونس تحولنا إلى “باباراتزي في كل مكان”؛ فحيثما وليت وجهك وجدت زملاء صحافيين يقتنصون اللحظة، وإن غادرت المحيط الصحفي وحثثت نفسك على حضور حفل زفاف أحدهم أو إحداهن فستجد الجميع يرقص وهو يوثق اللحظة وينشرها “لايف/ مباشر” على صفحته الخاصة وربما صفحات عامة.
وأغلبهم يركزون على النساء، فهن في لاوعيهم أو في وعيهم أيضا “السلعة” الأكثر إغراء والتي ستجلب بمفاتنها ورقصها المثير الكثير من التعليقات. وهذا ما يحدث بالفعل، فأغلب الفيديوهات تركز على النساء المتبرجات اللواتي يرتدين ملابس صيفية تكشف أياديهن وظهورهن وحتى بطونهن وسيقانهن.
يأتي المصور الصحافي بكامل ثقته في نفسه ليقوم بتصوير “الراقصة” ثم ينشر الصور أو الفيديو على صفحة المؤسسة الإعلامية أو صفحته الخاصة ويترك “البطلة” عرضة لهجوم شرس.
وبعيدا عن أن التعليقات المسيئة والمكفرة التي لا تعكس إلا مستوى صاحبها الفكري ومستوى البيت الذي تربى فيه، فإن هذه الفيديوهات والصور تكشف لنا مدى وقوع المصورين في الفخ. نعم، إنه فخ تسليع المرأة وتشييئها عبر استخدامهم جسدها ولحظات استمتاعها بالحياة دون أن تضر بأحد في الترويج والتسويق لمحتوياتهم الإعلامية وزيادة نسب المتابعين وبالتالي نسب الأرباح من فيسبوك وأنستغرام وتيك توك ويوتيوب.
ويفسر الباحث ليزلي غرين بأن معاملة النساء كشيء تُرسخ عن طريق ضغط الفكر الذكوري الذي يُمارَس على المرأة في التلفزيون والروايات والفيديوات والإعلانات والكليبات والأزياء والموضة.
قد يكون هذا الرأي صائبا، ونحن بالفعل اليوم نعيش تجسيدا كبيرا له في تونس، يكفي أن تتكلم مع بعض النساء في أي مهرجان، ستجد بسهولة أن بعضهن يقلنها صراحة “نحن أصبحنا مجبرين على التزين وارتداء أفضل ما عندنا من ملابس”، لأنهن قد يجدن أنفسهن موضوع “الساعة” عبر السوشيل ميديا. وهذا ما قالته لي مجموعة من الشابات في إحدى سهرات مهرجان الحمامات. ويكفي أيضا أن تبحث في التعليقات لتجد أن أغلبها ذكورية.
وبالإضافة إلى أن تسليع المرأة يمارس عليها ضغطا كبيرا، على مستوى الشكل والجسد والأفكار والسلوك وغير ذلك، فإنها اليوم صارت تعيش ضغطا أكبر يجبرها على أن تكون دائما أنيقة دون أي هامش لارتكاب خطأ، كي تنجو من كاميرات المصورين الصحافيين.
والغريب أن من يسب المرأة ويهاجمها بكثرة عادة ما يكون في الغالب امرأة مثلها، وهو ما يذكرنا بالقولة المأثورة “المرأة هي أكبر عدو للمرأة”.