الجزائر.. شعبوية الخطاب وواقعية الاقتصاد

بين تفاؤل برقية وكالة الأنباء الرسمية، وإشادتها بـ”انتصارات وإنجازات” الرئيس عبدالمجيد تبون، وبين المؤشرات التي كشف عنها المسؤولون في قطاع الطاقة، تصدّر الجزائر خطابا بوجهين متناقضين، واحد يرسم صورة وردية ومستقبلا باهرا، والآخر ينذر بمأزق لا نهاية له.
الجزائر التي رصدت موازنة سنوية تاريخية للعام الجاري، لم يجد رئيسها ما يدشنه في الاحتفالات الاستعراضية لعيد الاستقلال سوى مشفى حكومي بطاقة 140 سريرا، ومحطة لتحلية مياه البحر من النوع المتوسط، وتلك نتيجة طبيعية للخيارات والتصورات التي وضعتها الحكومة، عندما رصدت 70 في المئة من الموازنة إلى جانب التسيير، من أجل تغطية الزيادات المقررة في سلّم الرواتب والمعاشات ومنحة البطالة، بينما خصصت الـ30 في المئة المتبقية لجانب التجهيز الذي يمثل الاستثمارات الحكومية.
في الجزائر دأب الرؤساء على الخروج الاستعراضي في المناسبات والأعياد الوطنية لإثبات جدارتهم وشعبيتهم، وللأمانة كانت التدشينات لافتة وطنيا ومحليا كحصيلة للاستثمارات التي ترصدها الدولة في مختلف القطاعات، استجابة لمتطلبات السكان وتحسين الخدمات العمومية، لكن الرئيس تبون، لم يجد في خرجته الميدانية الأولى منذ انتخابه ما يدشنه، وذلك مؤشر على تراجع الدولة في قيادة قاطرة الاقتصاد والتنمية.
◙ في 2030، حينها فقط قد يزهد الناس ويتعففون عن سباق المسؤوليات والمناصب، لأن الجزائر ستكون أمام مصيرها الاقتصادي المحتوم، ولا يغامر بنفسه إلا من ملك عشقا للبلاد ورصيدا لمواجهة وضع آخر
والقارئ لبرقية وكالة الأنباء الرسمية الأربعاء، يعتقد أن مفاجآت مدوية ومشاريع عملاقة ينتظر إطلاقها قريبا، قياسا بعبارات الإطراء والإشادة بالمرحلة التي يقودها الرئيس تبون، إلا أنه لا يعثر في النهاية إلا على مشروع سكة حديد يربط الشمال بالجنوب على مسافة 2000 كلم، تم التعهد به من طرف الرجل منذ ثلاث سنوات، ويعول عليه على خلق ديناميكية اقتصادية واجتماعية تمتد إلى عمق أفريقيا.
الرئيس تبون، الذي راهن منذ قدومه إلى قصر المرادية نهاية العام 2019، على التكفل بالجبهة الاجتماعية والقدرة الشرائية عبر سلسلة من الزيادات في الرواتب والمعاشات ثم إطلاق منحة للعاطلين عن العمل، لم يوازن بين الآليات التي تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية وتنشيط الدورة الاقتصادية وخلق الثروة، ولذلك تراجعت وتيرة الاستثمارات العمومية القادرة على خلق مناصب الشغل والقيمة المضافة.
وجاء اعتراف البرقية بأن جزائر العام 2030 سيكون فيها 60 مليون نسمة، ليؤكد جدية التحديات القادمة والرهانات الصعبة أمام أيّ سلطة في البلاد، لأن الرقم الديمغرافي المذكور في حاجة إلى غذاء وكهرباء ومياه وصحة وتعليم وسكن وشغل، وتجاهل مثل هذه الملفات في الظرف الراهن، سيقود البلاد حتما إلى أزمة لا مثيل لها.
وإذا كانت السلطات المتعاقبة والحكومات المسيّرة في السابق، تجد في عائدات الطاقة غطاء للكلفة الاجتماعية والحاجيات المتنوعة، فإن ما كشف عنه المسؤولون في شركة سوناطراك يمثل مؤشرات قلق حقيقي على مستقبل البلاد، فالي جانب انحدار الجزائر نحو مغادرة منظمة الأوبك لأنها تسير لأن تصبح بلدا غير نفطي، هناك تنام للحاجيات الداخلية من الطاقة.
وحسب بيانات الشركة فإن العائدات المنتظرة خلال العام الجاري ستساوي أو تنزل قليلا عن عائدات العام الماضي (قرابة 50 مليار دولار)، بعدما قدرت خلال الخمس أشهر من السنة الجارية بـ21 مليار دولار، مقابل ارتفاع الاستهلاك الداخلي من النفط والغاز إلى 60 في المئة من المنتوج الوطني، ومع تراجع الإنتاج وازدياد الكثافة السكانية، فإن العام 2030 سيكون ربما جزائر بلا نفط تصدره، وحينذاك تحين ساعة الجد والحقيقة بما تحمله اللحظة من صدمة وتلاطمات.
◙ الجزائر التي رصدت موازنة سنوية تاريخية للعام الجاري، لم يجد رئيسها ما يدشنه في الاحتفالات الاستعراضية لعيد الاستقلال سوى مشفى حكومي بطاقة 140 سريرا، ومحطة لتحلية مياه البحر
لا أحد ينكر جهود السلطة في السعي لإيجاد عائدات خارج عائدات النفط والغاز، وإذ حققت سبعة مليارات دولار وتطمح إلى 13 مليار دولار في المدى القريب، لكن السنوات السبع التي تفصل الجزائر عن العام 2030 أسرع وحاجيات الـ60 مليون نسمة أكبر، فمن أين سيتم إسكان هؤلاء وإطعامهم وعلاجهم وتعليمهم، إذا تقلصت العائدات الريعية، ولم تقدر العائدات الاقتصادية الحقيقية على تلبية حاجياتهم؟
قد يقول قائل، إن السيناريوهات المتشائمة هي وليدة أفكار سلبية واستسلامية وحتى متربصة بـ”الانتصارات والإنجازات”، وإن الجزائر بإمكانها التحول إلى بلد غازي خاصة وأنها صاحبة رتبة ريادية في الغاز الصخري، وإن قطاع المناجم بإمكانه أداء دور محترم في السلسلة الاقتصادية للبلاد، لكن ذلك سيمثل رهنا جديدا للدولة في اقتصاد الريع وفي المصادر الآيلة للزوال، لاسيما وأن الإستراتيجية المطلوبة والتخطيط المفترض لم يحترما التوازنات الضرورية في بناء نهضة اقتصادية كما روجت له برقية وكالة الأنباء حول “الجزائر الجديدة”.
مثل شعبوية برقية وكالة الأنباء الرسمية، هي التي تتفادى الواقعية، وتعمل على طمس الحقيقة لرئيس الدولة، المسؤول السياسي والأخلاقي الوحيد على شؤون الدولة، وأن رسائل الإشادة والإطراء، هي التي سوّقت للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة بطلا قوميا ومخلصا للأمة، وانتهى به المطاف إلى ما يعرفه الجميع، هي نفسها التي تسوّق لـ”الجزائر الجديدة”، وإذا تحركت الرمال تحت أقدام تبون، ستتركه وحيدا وتتوجه لتسويق شخصية أخرى.
في 2030، حينها فقط قد يزهد الناس ويتعففون عن سباق المسؤوليات والمناصب، لأن الجزائر ستكون أمام مصيرها الاقتصادي المحتوم، ولا يغامر بنفسه إلا من ملك عشقا للبلاد ورصيدا لمواجهة وضع آخر، وعند ذاك فقط سيقطف الجزائريون ثمار الجزائر الجديدة أو أشواكها، فيدخل تبون التاريخ أو يخرج منه، ولذلك فإنه أمام الرجل وقت كاف لتصويب الأوضاع والتخطيط الجيد للمستقبل، ودون بيع الأوهام وطمس الحقائق كما فعلت برقية الوكالة الرسمية.