انقلاب الرئاسي والوحدة على النواب يمهد لتكريس حالة الانقسام بين طرابلس وبنغازي

يستعد المجلس الرئاسي الليبي لاتخاذ قرارات جديدة بالتشاور مع قوى إقليمية ودولية لها نفوذ سياسي، وسط استغلال لأزمة المصرف المركزي التي زادت من دائرة الانقسامات بين حكومتي شرق ليبيا وغربها.
أكدت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام روزماري ديكارلو أن “الوضع في ليبيا بات أكثر انقسامًا من ذي قبل، وهي “فترة حرجة”، فيما تستمر سلطات طرابلس (غرب) في تنفيذ انقلابها على مجلس النواب المنعقد في بنغازي (شرق)، بما ينذر بالمزيد من تقسيم البلاد وتهيئة الظروف لتغيير طبيعة النظام السياسي القائم، وفق مصالح القوى الداخلية والخارجية المتصارعة على السلطة والثروة.
وتشير مصادر ليبية قريبة من مراكز القرار، إلى أن المجلس الرئاسي يتأهب لاتخاذ قرارات جديدة قد تمثل صدمة للرأي العام المحلي، ولكن بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية تلعب أدوارا أساسية في تحديد الواقع السياسي في البلاد المنهكة بمفعول الأزمة المتفاقمة منذ 13 عاما، وتضيف أن قضية المصرف المركزي كانت جزءا من مخطط شامل للانقلاب على صلاحيات مجلس النواب في إطار يتجاوز الصراع التقليدي بين غرب وشرق البلاد، نحو صراع النفوذ حول الوضع الجيوسياسي والتحولات الإستراتيجية سواء في ليبيا أو في المنطقة ككل.
وتابعت المصادر أن كل ما قرره المجلس الرئاسي كان بتوافقات مع أطراف إقليمية ودولية، وأن ردود الفعل الصادرة عن واشنطن وبعض العواصم الغربية الأخرى كان مجرد ذر رماد على العيون، ولا يمكن التعامل معها بجدية، بينما هناك صراع يدور حاليا حول التدخل الأميركي والبريطاني في تحديد هوية الشخصية الجديدة التي ستتولى منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي بدلا عن المحافظ المقال الصديق الكبير والمحافظ المعين من قبل المجلس الرئاسي محمد الشكري والمحافظ المفروض من قبل حكومة عبدالحميد الدبيبة عبدالفتاح غفار.
وفي السياق ذاته، قال عضو مجلس الدولة الاستشاري أحمد لنقي، إن دور الصديق الكبير في إدارة مصرف ليبيا المركزي انتهى وسيتم تعيين محافظ ومجلس إدارة جديدين، وأضاف أن المجلس الرئاسي يسعى لتحجيم دور النواب والدولة في محاولة منه لاستعادة دوره السياسي.
قرار المجلس الرئاسي ما كان ليصدر لولا استناده إلى دعم خارجي يندرج في سياقات الصراع على النفوذ في ليبيا
ويتفق أغلب المهتمين، على أن المجلس الرئاسي لم يسع فقط إلى تحريك المياه الراكدة، بل عمل على إعادة خلط الأوراق بشكل جذري من خلال عملية انقلابية على مجلسي النواب والدولة عبر القيام بدور تنفيذي غامض لقرار صدر عن البرلمان منذ ست سنوات وتم التخلي عنه لاحقا، وهو المتعلق بتعيين محمد الشكري محافظا لمصرف ليبيا المركزي بدلا عن الصديق الكبير الذي يشرف على المصرف منذ نوفمبر 2011.
ويتابع المهتمون أن ليبيا لم تكن في حاجة إلى أزمة جديدة، وأن قرار المجلس الرئاسي ما كان ليصدر لولا استناده إلى دعم خارجي يندرج في سياقات الصراع بين القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ في البلاد، لاسيما أن الجميع يعلم أن عاصمتين كبيرتين كانتا تبسطان نفوذهما على المصرف وتدعمان الكبير قبل تخليهما عنه، وهما واشنطن ولندن.
ويستبعد المراقبون أن تتوصل البعثة الأممية إلى حلحلة أزمة المصرف من دون دعم أميركي مباشر مقابل التدخل لاختيار المحافظ الجديد الذي يشترط فيه ألا يكون محسوبا على فريق عقيلة صالح أو على قيادة الجيش.
وأوضح ممثلا مجلسي النواب والدولة، في بيان الخميس، أنه تم الاتفاق على مواصلة المشاورات على أن يتم السعي للاتفاق في أقرب الآجال على ترتيبات مؤقتة ضمن فترة زمنية محددة تنهي الأزمة، وشددوا على أن تكفل هذه الترتيبات تسيير أعمال المصرف الملحة إلى حين تعيين محافظ ومجلس إدارة جديدين.
وفي 11 أغسطس الماضي، أصدر رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، قرارا يقضي بإنشاء مفوضية للاستفتاء والاستعلام الوطني؛ لتنفيذ الاستفتاء والإشراف عليه وفرز نتائجه والإعلام عنها.
ونصت مادته الثانية من القرار على إنشاء هيئة مستقلة تسمى “المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني”، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، ويكون مقرها مدينة طرابلس.
وبحسب القرار، فيمكن للمفوضية أن تمارس مهامها في أي مدينة أخرى بناء على موافقة رئيس المجلس الرئاسي، وتكون لها فروع داخل ليبيا، وتكون قراراتها علانية ولا يجوز التدخل في اختصاصها.
ويتكون مجلس إدارة المفوضية حسب القرار، من مستشار قانوني مشهود له بالخبرة والكفاءة والجدارة رئيسا للمجلس وعضوية ممثل لنقابة المحامين، ورؤساء 5 جامعات ليبية، وعضو عن الشركة العامة للبريد وتقنية معلومات، وعضو عن الشركة القابضة للاتصالات، وعضو عن الهيئة العامة للاتصالات، وعضو عن الهيئة العامة للمعلومات، وعضو عن مصلحة الإحصاء والتعداد، على أن يصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة المفوضية من رئيس المجلس الرئاسي.
وحدد القرار اختصاصات المفوضية في تنفيذ الاستفتاء والاستعلام الوطني والإعداد له والإشراف عليه وفرز نتائجه والإعلام عنها ولها سلطة إصدار اللوائح التنفيذية والإجراءات اللازمة لتنفيذ عملية الاستفتاء وفق الدوائر الانتخابية المعتمدة وفق التشريعات النافذة، وسمح للمفوضية في سبيل تحقيق أغراضها اعتماد المراقبين المحليين والدوليين وكذلك اعتماد الإعلاميين المحليين والدوليين بما يضمن نزاهة عملية الاستفتاء عن طريق العرض المباشر أو غير المباشر مع ضمان الحياد والشفافية لتحقيق أهدافها المحددة، على أن يجرى تحديد الموضوعات التي تتطلب إجراء عملية الاستفتاء كما تعتمد نتائجه من رئيس المجلس الرئاسي.
ونص القرار على أن “يؤدي رئيس مجلس إدارة وأعضاء المفوضية أمام رئيس المجلس الرئاسي اليمين القانونية قبل مباشرتهم لأعمالهم القسم التالي: أقسم بالله العظيم أن التزم بنصوص الإعلان الدستوري، وأن احترم القانون وأن أؤدي واجبي بأمانة وصدق وشرف وأخلاق وحيادية تامة بكل شفافية ونزاهة في أداء واجباتي والله على ما أقول شهيد”.
وورد تعريف لمصطلح الاستفتاء الوارد في القرار بأنه عرض أحد الموضوعات التشريعية أو السياسية أو الإدارية على الشعب لأخذ الرأي بشأنها، وتعتبر نتائج الاستفتاء ملزمة لكافة الأطراف والجهات في الدولة على اعتباره مصدر السلطات بالتأييد والموافقة أو الرفض بأي موضوع يعرض عليه. أما الاستعلام الوطني فهو استطلاع رأي الشعب على موضوع بشكل محايد قبل المباشرة بإجراء عملية الاستفتاء بموجبه أو على قرار يرتكز عليه.
في اليوم الموالي، طلب مجلس النواب من المنفي سحب قراره بشأن إنشاء هيئة الاستفتاء والاستعلام الوطني فورا، معتبرا أن هذا القرار باطل ويخالف الإعلان الدستوري و”يعد خطوة خطيرة غير مبررة”.
وتعامل المجلس الرئاسي مع موقف مجلس النواب على أنه كلام بلا معنى لا يعتد به ولا يعوّل عليه. وفي السادس من سبتمبر الجاري أصدر رئيسه محمد المنفي قرارا بتشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني برئاسة عثمان أبوبكر القاجيجي، الرئيس الأسبق للمفوضية العليا للانتخابات.
وحمل القرار الرقم “26” لسنة 2024، فيما نصت مادته الأولى على رئاسة القاجيجي مجلس إدارة المفوضية، وعضوية كل من: يحيي غيث الجديد، د.عبد السلام محمد عثمان، د.محمد أحمد دقالي، د.سليمان مفتاح شاطر، د.نصر عياد المنصور، د.عصام البدري أبوخضير، محمد جمعة أبوحلقة، خمني محمد المبارك، سامي السايح الغزيوي، صلاح الدين عبدالله الباروني، أشرف بشير المراب، سالم خليفة أبوعائشة، ومفتاح محمد السويحلي.
وحضت المادة الثانية الجهات المختصة على تنفيذ هذا القرار من تاريخ صدوره في الخامس من سبتمبر الجاري.
واتضح بعد ساعات قليلة، أن المنفي اتخذ القرار من دون العودة إلى نائبيه موسى الكوني وعبدالله اللافي الذي اعتبر إن قرار تشكيل مجلس مفوضية الاستفتاء “باطل ولا يترتب عليه أي أثر قانوني”، وأن “جميع قرارات المجلس الرئاسي تُتخذ بالإجماع وفقًا للاتفاق السياسي.. وأي قرار منفرد يصدر عن أي من الأعضاء الثلاثة، سواء الرئيس أو النائبين بالمجلس، يعد باطلًا ولا يترتب عنه أي أثر قانوني”، لكنه سارع بعد أقل من ساعتين إلى حذف التدوينة بعد تلقيه عددا من الاتصالات من جهات نافذة في العاصمة طرابلس دعت إلى عدم منح الأطراف المعادية فرصة للتشكيك في قرارات المجلس الرئاسي.
ولم يستبعد مراقبون أن يكون تأسيس المفوضية الجديدة وتشكيل مجلس إدارتها خطوة على طريق الانقضاض على المفوضية العليا للانتخابات التي تواجه الكثير من العراقيل من سلطات طرابلس، وتعاني من ضائقة مالية مستمرة، وإلى تعمد تعطيل حركتها في اتجاه كل محاولة لتنظيم الاستحقاقات الانتخابية سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو بلدية.
ورأى زياد دغيم مستشار رئيس المجلس الرئاسي للشؤون التشريعية والانتخابات، أن قرار بعث المفوضية جاء بمثابة حل أمثل لحالة الانسداد السياسي الموجود في ليبيا الآن.
ورجحت أوساط مطلعة في طرابلس، أن يكون الهدف من إطلاق المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني هو الاستعداد لتنظيم استفتاءات حول جملة من الملفات المهمة والمصيرية مثل التصديق على مسودة الدستور الجديد، أو العودة إلى دستور 1951، أو المصالحة الوطنية، وذلك بمعزل عن مواقف سلطات المنطقة الشرقية وخاصة مجلس النواب وقيادة الجيش، وتابعت أن هناك فريق عمل يتكون بالأساس من سامي المنفي شقيق رئيس المجلس الرئاسي والذي يقوم بدور مستشاره ومبعوثه الخاص، وإبراهيم الدبيبة رئيس حكومة الظل والرجل القوي في طرابلس، يعمل على التخطيط للمرحلة القادمة وما يمكن أن تشهده من تحولات استثنائية.
المراقبون يستبعدون أن تتوصل البعثة الأممية إلى حلحلة أزمة المصرف من دون دعم أميركي مباشر مقابل التدخل لاختيار المحافظ الجديد
وبيّن القيادي الإخواني وعضو ملتقى الحوار السياسي عبدالرزاق العرادي أن “مجلسي النواب والدولة لم يقدّما شيئا لليبيين ومازالا يريدان البقاء، ومع ذلك فإن وجودهما شرعي ولا ينتهي إلا بأحد خيارين: إما الانتخابات أو الانقلاب، والأخير غير متأتّ، لا بالاستفتاء المزور ولا بالقوة المشتتة”.
وفي خطوة أخرى تؤكد طبيعة السياق الهادف إلى تهميش دور مجلس النواب، أصدر رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة قرارا بتعيين النائب البرلماني عن مدينة أوباري (جنوب غرب) عبدالقادر حسن يحيى في منصب عضو مجلس إدارة جمعية الدعوة الإسلامية.
وعلق رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا أحمد حمزة على قرار الدبيبة بتشكيل مجلس إدارة جمعية الدعوة الاسلامية بأنه باطل واغتصاب لسلطة مجلس النواب.
وأشار حمزة إلى “استمرار حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في العبث والإسفاف الإداري والسياسي والمؤسساتي وعدم الالتزام بالقوانين والتشريعات النافذة والمنظمة لعمل وتبعية القطاعات والمؤسسات العامة وعدم احترام المبدأ الدستوري الراسخ في الفصل فيما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والرقابية”، معتبرا أن الدبيبة أصدر قراره رقم 477 لسنة 2024 بشأن تشكيل مجلس إدارة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، بالمخالفة للقانون رقم 9 لسنة 2023 بإعادة تنظيم جمعية الدعوة الإسلامية العالمية وتقرير بعض الأحكام، والصادر في 17 أبريل 2023، وكذلك بالمخالفة للقانون رقم 58 لسنة 1972 بشأن إنشاء جمعية الدعوة الإسلامية العالمية واعتماد نظامها الأساسي.
ويقول متابعون للشأن الليبي إن سلطات طرابلس تعمل على استغلال الانشقاقات داخل مجلس النواب بتعيين عدد من أعضائه المقاطعين أو النشطين في مناصب أخرى تضمن لهم مصالحهم وبالمقابل تزيد من توسعة بوابات الشك في شرعية المجلس الذي مر أكثر من عشر سنوات على انتخابه.