انقشاع أزمة المهاجرين في تونس.. رب ضارة نافعة

جميع التقولات والاتهامات بالعنصرية سقطت بمجرد الاطلاع على حقيقة الأمر والتأمل في موقف الرئيس التونسي الذي رفع كل لبس، بل ومضى قدما في اجتراح الحلول وانتزاع الامتيازات للمهاجرين الأفارقة.
الجمعة 2023/03/10
إجراءات الحكومة التونسية لفائدة المهاجرين أهم من الاعتذار اللفظي

أي رسالة يريد الرئيس التونسي قيس سعيّد تبليغها حين اختار اللغة الفرنسية، خلال استقباله رئيس غينيا بيساو والرئيس الحالي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، عمر سيسوكو إمبالو، وقوله بأنه “أفريقي ويفتخر” مؤكدا أن تونس أرض تسامح ودولة قانون ومؤسسات ولا مكان فيها للعنصرية والكراهية.

هل لأن الفرنسية مجرد “لغة تفاهم” يتحدث بها قسم هائل من القارة السمراء وقد توارثها كمجرد “غنيمة ثقافية” من المستعمر التقليدي الذي مازالت ظلاله وأطيافه محل جدل في غرب أفريقيا، أم أنه يعلم علم اليقين أن أصداء كلمته ستصل إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وينصت إليها الأوروبيون جيدا؟

لا يحتاج رجل القانون الدستوري إلى من يملي عليه كيف ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الدول والشعوب، والتذكير بأن هناك قوانين وسيادة وطنية تحكم السياسات تجاه الأجانب، وذلك على خلفية الضجة التي أثيرت حول اتهامات له بممارسة العنصرية والدعوة إلى الكراهية ضد المهاجرين الأفارقة.

◙ الكرة الآن في مرمى الملعب الأوروبي ومن يشاركه ويناصره من المصطادين في الأزمات.. الأزمات التي قد تفقد المجتمعات رشدها

جاء ذلك على إثر تصريحات تخص المهاجرين غير النظاميين ببلاده من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتطالب بضرورة النظر في وضعياتهم القانونية بعد تسجيل الكثير من حالات الانفلات الأمني وانخراط البعض منهم في جرائم متفرقة، علاوة على استخدامهم من طرف جهات معينة.

تلك التصريحات التي ـ والحق يقال ـ رافقتها إجراءات أمنية في حدود القانون وعدم الإخلال بالحرمات الشخصية للمخالفين من المهاجرين، وجدت فيها جهات كثيرة في الداخل والخارج، حقلا للصيد وتسجيل المواقف وكيل الاتهامات التي أوصلت بعض الدول الأفريقية، بينها غينيا وساحل العاج، إلى إجلاء المئات من رعاياها في تونس بسبب ما تواتر عن تعرض بعض الأفارقة لاعتداءات.

هذا ناهيك عن تداعيات كثيرة من تصريحات وإدانات غربية وتلويح بعقوبات مالية، وجدت فيها أحزاب مناوئة لقيس سعيّد، وكذلك جهات حقوقية ناشطة، فرصة للتعرض لسياسة الحكومة، وتحميلها مسؤولية تبعات ذلك في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تحاول فيها قيادة اتحاد الشغل تسجيل المواقف في مرمى الحكومة، بأي شكل من الأشكال، وكيفما اتفق.

ولأن رب ضارة نافعة كما يقال، بادرت الحكومة إلى نزع الفتيل وإسكات الأفواه عبر جملة إجراءات تهدف إلى حماية الأجانب المقيمين على أرض تونس، شملت تسليم بطاقات إقامة لفائدة الطلبة من البلدان الأفريقية، وتسهيل عمليات المغادرة الطوعية في إطار منظّم وبالتنسيق المسبق مع السفارات والبعثات الدبلوماسية.

◙ الحديث في خصوص اتفاقيات وتفاهمات مع حكومات يمينية أوروبية كإيطاليا، فالأمر بعيد عن الواقع، ولا يمكن لرجل مثل قيس سعيّد، معروف بصرامته إلى حد العناد، أن يلعب دور الشرطي ضد فقراء قارته

وتعهدت الحكومة بردع “كل أنواع الاتجار بالبشر والحد من ظاهرة استغلال المهاجرين غير النظاميين من خلال تكثيف حملات الرقابة”، كما شددت على التزامها بالعمل على تعزيز الرعاية وتكثيف المساعدات الاجتماعية والصحية والنفسية اللازمة للمهاجرين.

هذه الإجراءات، وبشهادة من جهات حقوقية غربية، لا توجد حتى في بلدان أوروبية تدعي أن لها باعا طويلا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية المهاجرين واللاجئين.

سقطت جميع التقولات والاتهامات بالعنصرية بمجرد الاطلاع على حقيقة الأمر، والتأمل في موقف الرئيس التونسي الذي رفع كل لبس، بل ومضى قدما في اجتراح الحلول وانتزاع الامتيازات للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، في البلاد التي منحت اسمها لقارة بأكملها، وكانت من المؤسسين الفاعلين للمنظمة الأفريقية.. من يتذكر ما فعلته تونس للأفارقة أثناء الحرب الليبية؟

ويذكر التاريخ أنه وفي سنة 1962 جاء مانديلا إلى تونس في زيارة سريّة، مبعوثا عن المؤتمر الوطني الأفريقي، والذي قرّر خوض الكفاح المسلّح ضدّ نظام الأبرتايد العنصري، قابل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، قدّم له عرضا للقضية ووجد منه كل الدعم لقرار خوض العمل المسلح، بل وتحصل على أوراق رسمية تونسية لتسهيل تنقله.. فكيف تتهم هذه البلاد بالعنصرية أمام كل هذا السخاء الواضح إزاء الأشقاء؟

الحق أن ظلما كبيرا لحق بتونس أثناء هذه الهجمة غير المبررة، لكنها مفهومة، إذا ما تتبعنا خيوطها، وعرفنا الجهات التي تقف وراءها، إذ لا يعقل أن تنطلق أصوات في الإدارة الأميركية أو الصحافة الفرنسية لتتحدث عن عنصرية مزعومة في تونس التي ألغت الرق والعبودية في الثالث والعشرين من يناير 1846، أقره أحمد باشا باي (حكم بين 1837 – 1855، وهو عاشر بايات الحسينيين بتونس).

◙ رجل القانون الدستوري لا يحتاج إلى من يملي عليه كيف ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الدول والشعوب، والتذكير بأن هناك قوانين وسيادة وطنية تحكم السياسات تجاه الأجانب

سبقت تونس بهذا القرار الولايات المتحدة وفرنسا، حيث سجلت تجربتها في ذاكرة العالم من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).

الآن، وقد أسقط في يد كل المتقولين بعد تصحيح أوضاع المهاجرين على أرض الواقع ووفق قرارات وقوانين، لا يسع المتابع للأحداث إلا أن يسأل جميع الأطراف المشاركة في الحملة من الداخل والخارج: أنتم أيها المزايدون في الداخل باسم حقوق الإنسان من المستكرشين والمستفيدين من أموال تضخ من خارج الحدود، هل تحركتم لفائدة الفقراء والمستضعفين والمنهوبة أموالهم من طرف بارونات الفساد في العشرية الماضية؟

وأنتم أيها المتحدثون في الخارج باسم مناهضة العنصرية، ومناصرة الأفارقة، هل فعلتم شيئا ضد قوانين حكوماتكم الجائرة في موضوع المهاجرين؟

أما عن الحديث في خصوص اتفاقيات وتفاهمات مع حكومات يمينية أوروبية كإيطاليا، فالأمر بعيد عن الواقع، ولا يمكن لرجل مثل قيس سعيّد، معروف بصرامته إلى حد العناد، أن يلعب دور الشرطي ضد فقراء قارته التي يفخر بالانتماء إليها كما يؤكد دائما.

ما أقرته الحكومة التونسية من إجراءات لفائدة المهاجرين أهم من الاعتذار اللفظي، والكرة الآن في مرمى الملعب الأوروبي ومن يشاركه ويناصره من المصطادين في الأزمات.. الأزمات التي قد تفقد المجتمعات رشدها، وتجعل ممارساتها أحيانا أشبه بالعنصرية، لكن سرعان ما تعود إلى معدنها.

8