انسحاب الشركات الكبرى للتكنولوجيا يعمّق من عزلة الصين افتراضيا

الأنظمة الاستبدادية أصبحت تعتمد على التكنولوجيا لإعادة تشكيل القمع بما يتناسب مع معايير العصر الحديث.
الأربعاء 2021/11/03
بكين تقود شعبها نحو عزلة كاملة

بكين – بينما يسير العالم نحو انفتاح افتراضي غير محدود، ويعمل على كسر الحدود الجغرافية والسياسية عبر المواقع والتطبيقات التكنولوجية، تغادر شركات التكنولوجيا العالمية وتطبيقات الألعاب الشهيرة الصين الواحدة تلو الأخرى، رفضا للإجراءات المشددة التي ينتهجها النظام، مما يضاعف عزلة بكين الرقمية في عالم شديد الانفتاح.

وأعلنت شركة ياهو لخدمات الإنترنت الثلاثاء أن خدماتها لم تعد متاحة في البرّ الرئيسي الصيني اعتبارا من الأول من نوفمبر، جرّاء البيئة القانونية وبيئة العمل التي تتزايد فيها التحديات في الصين.

وتعد هذه الخطوة رمزية إلى حدّ كبير، حيث صارت خدمات ياهو الرئيسية مثل خدمات البريد الإلكتروني غير متاحة في البلاد منذ سنوات.

وجعلت هذه الخطوة شركة ياهو أحدث شركة أميركية تغلق خدماتها في الصين، فقد سبقتها لذلك شركة مايكروسوفت التي أغلقت نسختها الصينية من شبكة التواصل المهني الإلكترونية “لينكد إن” في منتصف أكتوبر مشيرة إلى المزيد من المتطلبات التنظيمية للسلطات. وتعدّ خدمات غوغل غير متاحة في الصين منذ فترة طويلة، فيما يخضع موقع فيسبوك للحجب في البلاد.

وتفرض الصين على المنصات الإلكترونية توفير بيانات المستخدمين الصينيين للسلطات عند الطلب، وحذف المحتوى المحظور في البلاد، مثل الإشارات إلى مذبحة ساحة تيانانمين في 1989.

وفي نفس الإطار قررت شركة “إبيك غايمز” سحب لعبتها الشهيرة “فورتنايت” التي تجمع الملايين من المستخدمين من كل أنحاء العالم من السوق الصينية، ما تسبب باستياء عارم في صفوف عشاق لعبة الفيديو هذه في الدولة الآسيوية العملاقة التي تضيّق سلطاتها الخناق على القطاع الرقمي.

وباتت “فورتنايت” ثاني اسم كبير في عالم التكنولوجيا يعلن في غضون شهر رحيله عن الصين.

وتُعتَبَر “فورتنايت” واحدة من أكثر ألعاب الفيديو شعبية في العالم إذ تضم نحو 350 مليون مستخدم من مختلف دول العالم، أي ما يعادل أكثر من نصف عدد سكان الولايات المتحدة. وهي عبارة عن لعبة تشاركية يتفاعل فيها اللاعبون عبر الإنترنت في بيئات معادية. وإذا لعبوا كمجموعة، يسعى كلّ منهم إلى أن يكون آخر من يبقى على قيد الحياة.

وتعود “فورتنايت” التي يمكن تنزيلها مجانا بمليارات من الدولارات من الإيرادات بفعل شراء اللاعبين عناصر إضافية لشخصياتهم، منها الملابس.

في نفس الإطار قررت شركة "إبيك غايمز" سحب لعبتها الشهيرة "فورتنايت" من السوق الصينية

ولـ”فورتنايت” نسخة خاصة في الصين تتوافق مع شروط صارمة في ما يتعلق بالمحتوى العنيف أو الفاحش أو الحساس سياسيا. وهذه النسخة هي التي لن تعود متوافرة في غضون أسبوعين، وتحديدا في الحادية عشرة من صباح الخامس عشر من نوفمبر.

ولم توضح الشركة سبب هذا القرار، لكنه يأتي في مرحلة تعمل فيها الصين على تشديد اللوائح التنظيمية في هذا القطاع.

وتبدي السلطات تشددا في المسائل المتعلقة بالمنافسة والبيانات الشخصية، وعمدت في الأشهر الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات في حق عدد من الشركات الكبرى في القطاع على خلفية ممارسات كانت تجيزها سابقا على نطاق واسع.

ولم ينج من هذه الإجراءات قطاع ألعاب الفيديو التي تدرّ على الصين مكاسب مالية كبيرة، لكن انتقادات توجه إليها بسبب إدمان الشباب عليها.

وفرضت السلطات في أغسطس الماضي حدودا صارمة لوقت ممارسة ألعاب الفيديو المسموح بها لمن هم دون الثامنة عشرة، وحددته بثلاث ساعات أسبوعيا، في حين يمضي بعض المراهقين ساعات طويلة أمام شاشاتهم يوميا.

وفوجئ اللاعبون الصينيون بالإعلان عن توقف لعبتهم المفضلة، واعتبرت إحدى اللاعبات في تعليق على شبكة التواصل الاجتماعي “ويبو” أن هذه الخطوة “لم تكن متوقعة” إطلاقا. وأضافت “أذرف كل ما لدي من دموع. فأنا ألعب فورتنايت مع صديقي وكنت أتحرق شوقا لأرى ما سيحدث بعد ذلك”.

وتحدّث آخرون عن عدد الساعات التي قضوها لتطوير شخصيتهم في اللعبة.

ووضعت قيد التداول عبر الشبكات الاجتماعية عريضة تحضّ “إبيك غايمز” على السماح للاعبين الصينيين بنقل بيانات اللعب الخاصة بهم إلى خارج الصين. واعتبروا أن هذه البيانات تحتوي على قلوبهم وأرواحهم.

وتكشف سياسات النظام الصيني الذي يسعى جاهدا إلى تقييد عمل شركات التكنولوجيا على أراضيه، في ظاهرها رفضا للآثار السلبية على الصحة النفسية للمستخدمين واقتحاما كبيرا لخصوصياتهم، إلا أنها قد تكشف في باطنها مساعي بكين للسيطرة على عالم التكنولوجيا وجعله “محليا ومراقبا” لإدراكها أن التكنولوجيا أصبحت تتيح أسلحة جديدة لإحكام قبضة الاستبداد بدرجة تفوق الوسائل التقليدية بالملايين من المرات.

وكان تقرير بعنوان “خفايا دور التكنولوجيا في تعزيز قبضة الاستبداد والدكتاتورية” لمجلة فورين أفيرز، كشف العام الماضي أن التقنيات الحديثة توفر للأنظمة الدكتاتورية، والنظام الصيني واحد منها، أساليب أكثر فاعلية للمراقبة بطرق أكثر سريّة ولا تحتاج إلى موارد كبيرة مقارنة بعمليات التتبع التقليدية.

ولا تقبل الأنظمة المستبدة بفسح المجال كليا للشركات التكنولوجية العالمية مثل وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتبر وسيلة لتقليص الحواجز بين المواطنين العاديين وتسهيل التنسيق لدعوات التجمّع والتظاهر لتحدي الحكومات الدكتاتورية.

ولأن التكنولوجيا تتيح المجال أيضا للذين يسعون إلى إسماع أصواتهم والوقوف بوجه الأنظمة القمعية، وتزيد الضغوط عليها من قبل شعوبها، فإن الأنظمة الاستبدادية أصبحت تعتمد التكنولوجيا لإعادة تشكيل القمع ليتناسب مع معايير العصر الحديث.

ويتخوّف الحزب الشيوعي الصيني الحاكم من تسريب بيانات الصينيين إلى دول منافسة وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لكنه في المقابل يجمع عبر التطبيقات المحلية كمية هائلة من البيانات عن الأفراد والشركات، تشمل الإقرارات الضريبية والبيانات المصرفية وتاريخ الشراءات والسجلات الجنائية والطبية. ثم يستخدم النظام الذكاء الاصطناعي لتحليلها وتحديد معايير “السلوك المقبول” وزيادة نطاق السيطرة على المواطنين.

وتفيد تقارير بأن المسؤولين في الأنظمة الاستبدادية الأفريقية يتجهون إلى الصين للمشاركة في دورات تدريبية، حول إدارة الفضاء الإلكتروني والتعرف على الأساليب الصينية المعتمدة في التحكم والسيطرة.

لكنّ الصين في اهتمامها بإحكام قبضتها على العالم الافتراضي لمواطنيها، تسقط في فخّ العزلة الذي قد يجعلها في مرمى اتهامات دولية بالتضييق على الحقوق والحريات، ويغيّب الصينيين عن تلقي معلومات حول التنافس الصيني – الأميركي المشتعل عسكريا واقتصاديا.

6