انحياز تونس لحكومة الدبيبة خطوة براغماتية أم اضطرارية

تشهد السياسة الخارجية في تونس تحولا صوب توثيق الروابط مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في ليبيا، والتي تبسط نفوذها على غرب البلاد، ويرى مراقبون أن هذا التحول مرتبط أساسا بالأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس، حيث تبحث عن متنفس لها لدى دول الجوار.
يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد قد حسم أمره بالرهان على الحكومة التي تتمركز غرب ليبيا بقطع النظر عن وضعها القانوني والاعتراف الإقليمي بها.
كان حضور وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي في الاجتماع العربي في طرابلس إشارة واضحة على أن قيس سعيد قد قرر الرهان على محيطه المباشر، أي الجزائر وحكومة عبدالحميد الدبيبة بقطع النظر عن التحالف الذي تنتميان إليه. المهم هو الحصول على مساعدات عملية تفك الأزمة عن البلاد. والمقصود بالمساعدات ليس تلك المساعدات الاستعراضية التي أرسلتها حكومة غرب ليبيا منذ أيام، فقد كانت حركة تنم عن انعدام ذوق بقطع النظر عن دوافع من أرسلوها.
يريد الرئيس التونسي الاستثمار في الوضع الهش الذي تعيشه حكومة الدبيبة لتحصيل اتفاقيات تتعلق بترتيب عودة العمالة التونسية إلى ليبيا، التي بدأت تدخل مرحلة إعادة الإعمار وتشهد تنافسا دوليا كبيرا من أجل افتكاك المكاسب.
وإن كانت دول مؤثرة في الملف مثل تركيا وإيطاليا قد حصلت على مشاريع كبرى مقابل إسنادها لحكومات غرب ليبيا ما بعد 2011، فإن تونس تريد أن تحصل لشركاتها وعمالتها على حصة كبيرة في إعادة الإعمار، مستفيدة من تجارب الماضي التي جعلت الغرب الليبي يراهن على الشركات والعمالة التونسية، فضلا عن التبادل التجاري ودور تونس الفعال في إسناد الليبيين بعد ثورة فبراير واستقبال الآلاف منهم.
إذا كانت تونس قد خطت باتجاه الانفتاح على الدبيبة انطلاقا من مقاربة براغماتية، فإنها تكون بذلك قد أثبتت ذكاءها
وهناك استفادة مباشرة لتونس من الوضع الناشئ الذي جعل مصر تقف ضد حكومة الدبيبة، وتريد فرض حكومة فوضها البرلمان الموجود في الشرق، بزعم أن حكومة الدبيبة منتهية الصلاحية، فيما الحقيقة أن الأجسام التشريعية والتنفيذية كلها منتهية الشرعية بما في ذلك البرلمان.
انسحاب مصر من التنافس على حصتها في العمالة وحصة شركاتها في العمل بالمناولة وراء شركات تركية وإيطالية وأميركية سيوفر لتونس فرصة أكبر للتنفيس بإرسال الآلاف من العمالة إلى ليبيا. وإذا كانت الحكومة التونسية قد خطت باتجاه الانفتاح على الدبيبة انطلاقا من هذه المقاربة البراغماتية، فإنها تكون بذلك قد أثبتت ذكاءها، فما يهم الدول ليس المواقف السياسية الحادة، ولكن المصالح والمكاسب التي ستحققها لشعوبها.
وبالتأكيد، فإن اعتراف تونس العملي بحكومة الدبيبة، من خلال حضور اجتماع وزاري قاطعه أغلب العرب، سيمهد الطريق لتنفيذ الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة نجلاء بودن مع حكومة الدبيبة بعد زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية إلى تونس في الفترة الأخيرة.
يمكن أن نفهم مقاطعة أغلب الوزراء العرب لاجتماع وزاري في ليبيا لأن الملف صار مملا، وكل دولة لا تريد أن تجد نفسها غارقة في تفاصيل خلافات ومزايدات. وبالتأكيد حين يعود الليبيون إلى بعضهم ويتحاورون ويتفقون سيعود كل العرب إلى طرابلس.
وكانت غابت عن اجتماع طرابلس الجامعة العربية بسبب ارتباطها الدائم بالقرار المصري. ولمصر حساباتها خاصة أنها تريد حلا في ليبيا تكون هي مركزه، أو توفر لها ليبيا حلا لأزماتها خاصة من جانب جلب العمالة المصرية وتهيّؤ القاهرة لمواجهة أزمة العائدين من الكويت.
تمتين العلاقة مع الدبيبة والجزائر لا يعني بأيّ شكل أن تونس صارت جزءا من التحالف الجزائري – التركي – القطري وتشابكاته الإقليمية في رعاية الإسلام السياسي ودعمه
لكن المؤشرات تقول إن الدول المعنية بالملف الليبي، وخاصة الولايات المتحدة، باتت تدفع نحو تسريع حل سياسي بقطع النظر عن معارضة هذا الطرف الليبي أو ذلك أو اعتراض دولة على صيغة الحل وعلى المستفيدين منه. والهدف من وراء ذلك هو عودة النفط الليبي إلى السوق الدولية، وتسريع فرص استكشاف الغاز واستخراجه في ليبيا، وهو ما يمثل جزءا من حل تبحث عنه أوروبا لتطويق مخلفات أزمة الغاز الروسي.
أمام تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي ليس مهما من يغضب من الليبيين وداعميهم، وليس مهما من سيجد نفسه على كرسي السلطة أو معارضا لها. وبالنتيجة، فإن الانسحاب العربي من لقاء طرابلس كان رسالة واضحة بأن العرب ينسحبون من الحل الليبي ويضعونه بيد الدول الفاعلة ذات المصالح الحيوية في ليبيا.
وفي ظل هذا المناخ، سيكون من المهم أن تتصرف تونس ببراغماتية للبحث عن دور لها ولو ثانوي في ليبيا، وليس مهما الدور الدبلوماسي، فهي طالما كانت قبلة اللقاءات والمشاورات بين فرقاء الأزمة الليبية سواء بشكل مباشر أو برعاية خارجية أميركية أو أممية.
قد يلام الرئيس التونسي على هذا التحول في الموقف تجاه ليبيا من الحذر إلى الوضوح، فتونس كانت تريد الاعتراف بحكومة ليبية يتم الاتفاق عليها ضمن مسار شامل برعاية أممية، لكن هذا المسار قد طال وليس بوسع أيّ جهة دولية أو إقليمية النجاح في تأمينه.
ولأجل هذا لم تكن تونس لتستمر طويلا في الانتظار وتفوت الفرص على نفسها خاصة في ظل اتجاه الفاعلين في الملف للرهان على الدبيبة في هذه المرحلة، وتهميش بقية الفاعلين خاصة رئيس البرلمان عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى خالد المشري، وحكومة فتحي باشاغا، إلى حين الوصول إلى حل سياسي يفضي إلى إجراء الانتخابات.
تونس التقطت هذه الإشارات مبكرا، وفتحت قنوات التواصل مع الدبيبة بالرغم من كل المآخذ السابقة حول ارتباطاته الداخلية والخارجية، ذلك أن المصالح لا تحتكم إلى الأمزجة ولا تقبل بالانسحاب من الملعب إلى حين فرض شخص أو منظومة قريبة من تونس ولا تثير مشاكل مع حلفائها.
وبالتأكيد، فإن تمتين العلاقة مع الدبيبة والجزائر لا يعني بأيّ شكل أن تونس صارت جزءا من التحالف الجزائري – التركي – القطري وتشابكاته الإقليمية في رعاية الإسلام السياسي ودعمه. ولو أن المهم لأيّ دولة هو تأمين مصالحها من دون أي تأثيرات سلبية على أمنها وتوازناتها الداخلية.
يمكن لتونس أن تقيم علاقات اقتصادية مع قطر وتركيا والجزائر من دون أن يكون لذلك أيّ تأثيرات على المشهد الداخلي، وخاصة مراجعة قيس سعيد لموقفه من حركة النهضة، وهو أمر مستبعد في ظل توتر عال بين الطرفين وتمسك قيس سعيد بأن تكون السلطات بيده، وفتحه ملفات ضد قيادات من الحركة التي تقول إن كل ما يفعله الرئيس سعيد هرسلة وضغط عليها لمراجعة موقفها المتصلب منه.
بالتأكيد، فإن قطر أو تركيا ليستا وصيّتين على الإسلام السياسي، وقد راهنتا عليه كورقة لتأمين دورهما الإقليمي في الصراعات التي جرت خلال موجة “الربيع العربي”، وقد قفز البلدان على هذه الورقة خلال المصالحة مع دول الخليج، ولم يثر أيّ منهما مصير الإخوان ووضعهم، وعلى العكس صدرت تصريحات تتبرأ منهم. وهذا أمر وارد وممكن في العلاقة مع تونس، ذلك أن الجميع يبحث عن مصالحه.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تركيا وقطر تصالحتا مع مختلف الخصوم، ولم يبق سوى فتح قنوات التواصل مع تونس، مع أن قيس سعيد لم يكن يرى في نفسه طرفا في التحالف الذي يقف بمواجهة تركيا وقطر. كان موقفه أساسا من الإسلام السياسي في تونس.
كما أن تونس لم تحصل على أي دعم ذي قيمة من التحالف المقابل بما يجعلها تصطف في صفه، أو تتحمس لعلاقاته. وفي هذا السياق لم تحصل تونس منذ إجراءات يوليو 2021 التي قادها قيس سعيد على أيّ دعم عربي ذي وزن كما سبق أن حصلت عليه مصر منذ يونيو 2013 تاريخ استلام عبدالفتاح السيسي للسلطة، وهو دعم مهم خاصة في اللحظة الراهنة بالنسبة إلى تونس التي تمر بظروف اقتصادية صعبة.
وقد تكون الرسالة السعودية الأخيرة بشأن التوقف عن منح الهبات والمساعدات بشكلها التقليدي حسمت قرار قيس سعيد باتجاه الرهان على محيطه والعودة إلى الجزائر وليبيا كخيار ثابت.
وبالنتيجة، ليبيا بحسابات الربح والخسارة دولة مهمة جدا لتونس.