انحناء الحكومة السودانية أمام عاصفة المناهج يقوّي شوكة الإخوان

يخشى التيار المدني أن يجر تنازل الحكومة في ملف المناهج الدراسية المزيد من التنازلات لصالح التنظيمات الإسلامية، التي ستنظر إلى هذه الخطوة على أنها انتصار كبير، يمكن البناء عليه في التصدي لعملية تفكيك إرث الرئيس المعزول عمر حسن البشير الفكري والاجتماعي.
الخرطوم – قدّمت الحكومة السودانية هدية مجانية لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن جمدت العمل بمقررات دراسية جديدة، واستجابت لضغوط مارستها قوى محسوبة على نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، ما فتح الباب أمام إمكانية تكرار الأمر في قضايا اجتماعية وسياسية، استجابة للدولة العميقة ورغبتها في استمرار هيمنتها على الدولة.
واعتبر مجمع الفقه الإسلامي، الذي قاد الحملة ضد رئيس المجلس القومي للمناهج عمر القراي، بمشاركة تنظيمات دينية وسياسية محسوبة على نظام البشير، تجميد المناهج الجديدة خطوة مهمة في الطريق الصحيح، ووأد الفتنة الدينية والمجتمعية.
وأمام انحناء الحكومة، وجد القراي نفسه مضطرا لتقديم استقالته، وحمل خطاب استقالته مساء الخميس، انتقادات قوية لها، حيث قال فيه “رضخت لضغوط فلول النظام المدحور، وسلمت الثورة لقمة سائغة لفلول النظام البائد وقوى الهوس الديني والتطرف الأعمى”.
وتسبب قرار رئيس الحكومة عبدالله حمدوك، بتجميد العمل بالمناهج الجديدة وتشكيل لجنة تمثل كافة أطياف الآراء والتوجهات، في أزمة داخل حكومته، وأعلن وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم، إرجاء اتخاذ أي قرار على خلفية تجميد المناهج إلى حين رد رئيس الحكومة على مذكرة دفع بها لتوضيح قراره الأخير.
ويقول مراقبون، إن حمدوك منح تنظيم الإخوان فرصة ثمينة للتشكيك في أي خطوات من شأنها التعامل مع إرث البشير الفكري والاجتماعي، وتحويلها إلى قضية سياسية ودينية، تُمكن من جذب فئات عديدة لم تنل حظها من التعليم، لتكون وقودا في معارك مع السلطة مستقبلا.
وأوضحت المحللة السياسية السودانية شمائل نور، أن خطورة التجميد تكمن في أن حمدوك استجاب لضغوط التيار السلفي، والذي يخوض معارك عديدة في وجه كل محاولة تغيير حقيقية، ما يهدد بانعكاسات سلبية على تعامل السلطة مع قضايا الحريات.
وأضافت لـ”العرب”، أن نظام البشير نفسه لم يكن يستجيب في الكثير من المرات لضغوط السلفيين، لكن الرضوخ لهذا التيار حاليا يؤكد وجود ردّة قوية في كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، وكان بإمكان حمدوك مراجعة الدوائر المهنية التي تولت عملية التطوير للنقاش، كي لا تأخذ القضية أبعادا سياسية كبيرة.
ويبدو أن الحكومة ذاهبة باتجاه محاصصة خفية مع قوى سياسية محسوبة على نظام البشير، دون أن تنتمي بشكل مباشر إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا.
وكشفت لقاءات حمدوك مع المجمع الصوفي وهيئة الختمية وهيئة شؤون الأنصار وجماعة أنصار السنة المحمدية ومجمع الفقه الإسلامي، للنظر في قضية المناهج، أن الحكومة في طريقها لإفساح المجال للانفتاح على تيارات إسلامية، ربما تطل برأسها من جديد بعد أن انزوت متأثرة برحيل البشير.
وربط متابعون بين لقاءات سابقة عقدها حمدوك مع قيادات حزب المؤتمر الشعبي (أسسه حسن الترابي)، ورئيس حركة الإصلاح غازي صلاح الدين، ودعوة الحركات المسلحة لدمج أحزاب إسلامية في الفترة الانتقالية، وبيّن الاجتماع الأخير الذي جمعه بتيارات من أطياف إسلامية مختلفة لمناقشة أزمة المناهج، أنّ توجّهه كان عكس التيار الشعبي العام الذي يرفض أي انفتاح على تلك القوى.
ويشير تعامل الحكومة مع أزمة المناهج بهذه الكيفية، إلى أن التقارب القائم بين قوى سياسية وعسكرية موجودة في السلطة، وبين تنظيمات إسلامية ما زالت تحظى بشعبية في أوساطها، قد يُفرز المزيد من التنازلات لضمان تحييد قوى محسوبة على التيار الإسلامي، حال وجدت السلطة نفسها في مواجهة الشارع الرافض لتوجهاتها الحالية.
ولا يخلو الأمر من إمكانية الاستعانة بعناصر تلك التنظيمات في مواقع سياسية غير حساسة، وفي مقدّمها السماح لها بالتواجد في المجلس التشريعي المنتظر، في ظل توجهات بعض الحركات المسلحة القريبة من السلطة ولديها علاقات مباشرة مع الحركة الإسلامية، مثل حركة العدل والمساواة، إلى جانب سعي بعض العسكريين في مجلس السيادة للانفتاح بشكل أكبر عليها.
وليس من المستغرب، أن يقود حمدوك التقارب مع عناصر إسلامية في ظل سعيه المتكرر لتجسيد دور الشخصية التوافقية، التي تعمل على امتصاص الأزمات وإحداث التناغم بين المكونين المدني والعسكري، حيث تولى منصبه بالتوافق.
ويرى حمدوك أن نجاحه في منصبه يتعلق بقدرته على إحداث انسجام سياسي بين أطراف مختلفة، في حين يرى معارضون له أن طبيعة المرحلة الانتقالية تتطلب قرارات وشخصيات ثورية، لا ليونة قد تؤدي إلى أزمات سياسية مضاعفة.
وأكد حمدوك في قرار تجميد المناهج الجديدة، أن الفترة الانتقالية التي يمر بها السودان، “مرحلة للتوافق حول أسس إعادة البناء والتعمير لسودان يسع الجميع”، في إشارة إلى عدم استبعاد قوى إسلامية في السلطة لاحقا، وهو ما يتعارض مع مبادئ الثورة التي ترفض العودة إلى الوراء.
وواجه قرار رئيس الحكومة انتقادات واسعة على المستويين الشعبي والسياسي، واعتبرت دوائر عدة أنّ تدخله بحسم لوقف العمل بالمناهج، كان من المفترض أن يكون في قضايا أخرى تستدعي تعامله معها بشكل صارم وسريع، ما جعله يواجه غضبا من قوى ثورية، باتت تعتقد في تراجعه أمام ثورة لصالح قوى التطرف والظلام.
وقال المحلل السياسي السوداني قصي مجدي، “إن الحقيقة الكبرى التي كشفتها أزمة المناهج، هي أن تنظيم الإخوان ما زال متغلغلا في المجتمع، وهو أمر لا يبدو مستغربا لأن استمرار التمكين لأكثر من 30 عاما، يصعب محوه بتغيير أشخاص على رأس السلطة، وهناك حاجة لبناء دولة جديدة كاملة، بعد أن فقد السودان جزءا من وحدته الوطنية، ويتعرض نسيجه الاجتماعي للتآكل، وتدهور خدمات الصحة والتعليم”.
ولفت لـ”العرب”، إلى أن “تنظيم الإخوان حقق انتصارا صامتا في معركة المناهج، ضمن حرب تغيير الأفكار التي تقودها قوى الثورة، وإذا لم تكن هناك إرادة حقيقية للتغيير من قبل السلطة، فإن ذلك سيؤدي إلى عدم القدرة على إحباط المحاولات التي تستهدف عرقلة مسيرة التطوير”.
وتوقع متابعون أن تطول المعركة مع فلول نظام البشير في مثل هذه الأجواء، التي تظهر فيها الليونة داخل السلطة الانتقالية على أنها توافق، والتي أدت إلى الصمت على تواجد عناصر إرهابية على الأراضي السودانية خلال الفترة الماضية، لذلك فهناك حاجة ماسة لخطوات فاعلة تتعامل بجدية مع تغييب الوعي وزرع الفتنة بين المواطنين.