انتخابات تونس.. أين من عينيك ذيّاك البريق

صحيح أن الشعوب دائما على عجلة من أمرها في تلمس الإصلاحات والرئيس سعيد يمضي في صدق نواياه دون أن يمتلك عصا سحرية لكن جميع المؤشرات تدل على أن القادم لن يكون ورديا.
الخميس 2022/12/22
اتحاد الشغل بادر للبحث عن موقع قدم في الأزمة الحالية

لا شيء يدل، أو حتى يوحي، بأن البلاد تعيش انتخابات برلمانية من شأنها أن تغيّر، ولو قليلا، من وجه البلاد العبوس، وتُحدث بعض الحركية، وتدفع بتغير، وإن كان شكليا، في نشاط التونسيين وأحاديثهم اليومية.

استمرت الأعناق مشرئبة في المقاهي إلى القنوات الرياضية الناقلة لمونديال الدوحة، وبقيت نقاشات الناس تنام وتصحو على نتائج المباريات التي شغلت التونسيين لبعض الوقت وأراحتهم من كلام التذمر والتشكي حيال الأزمات المعيشية الخانقة.

ضعف الإقبال غير المسبوق، والذي وُصف بـ”الكارثي” على صناديق الاقتراع في الانتخابات التي راهن عليها الرئيس قيس سعيد، ودعت إليها قوى خارجية، هو نفسه، لم يكن “حدثا” يستحق اهتمام التونسيين.

كأن إجراء هذه الانتخابات أو عدم إجرائها سيّان لدى من سئموا الحياة السياسية في بلادهم وانفضوا من حول نخبها سواء أكانت من المعارضة أم من الموالاة لرئيس ما فتئ يتوعد الفاسدين والعابثين بلقمة الشعب، دون أن يحس الناس بنتائج سريعة وملموسة.

◄ الثقة ضئيلة أو شبه معدومة بين التونسيين وقيس سعيد من جهة، والأحزاب من جهة ثانية، أما المنظمة النقابية فتحاول الإبقاء على شعرة معاوية، ولكن بشكل ضبابي وغير كاف

صحيح أن الشعوب دائما على عجلة من أمرها في تلمس الإصلاحات، والرئيس سعيد يمضي في صدق نواياه دون أن يمتلك عصا سحرية، لكن جميع المؤشرات تكبح خيال التفاؤل، وتدل على أن القادم لن يكون ورديا.

يحدث هذا على عكس ما تتضمنه بيانات انتخابية محتشمة لمرشحين غير معروفين، بلا أحزاب داعمة، ولا حملات دعائية صاخبة كما كان الأمر عليه في سنوات 2011 و2014 و2019.

لا شيء يبرر هذا الجفاء الانتخابي الرهيب، ليس فقط لأن المرشحين غير معروفين وقليلو الخبرة السياسية، ولا حتى لأن حملات “جبهة الإنقاذ الوطني” المنادية بالمقاطعة، فعلت فعلها، وأثّرت على نسبة الإقبال، وإنما لأن التونسيين جميعهم، لم تعد تعنيهم مثل هذه الانتخابات التي لم يقطفوا منها غير خيبة المسعى.

بعد أن هبّ الناس للمطالبة بحل البرلمان الماضي ومحاسبة الحكومة التي تسببت فيما وصلت إليه البلاد، ظن مراقبون أن الجميع سوف يتحمس بذات الدرجة التي ساند فيها الرئيس سعيد، ضمن ما أقدم عليه يوم 25 يوليو 2021 من تجميد للبرلمان وحل للحكومة، لكن ما حدث هو المقاطعة المطلقة إلى حد اللامبالاة النهائية.

الدليل هو هذا المشهد الباهت لانتخابات لا يكاد يتحمس لها حتى من يخوضها، فما الذي يختفي خلف هذا الإحجام الرهيب بعد أن كان التونسي يتنفس سياسة، ويتسلّى بالحديث في شؤونها مع القريب والبعيد في المقاهي والأسواق؟ هل هو المزاج الشعبي التونسي الذي يتحمس لكل ما هو مستجد ثم يدير له ظهره بنفس الحماس الذي أقبل عليه؟

يقول المثل الشعبي “من يجرّب المجرّب عقله مخرّب”، والتونسيون لن يُلدغوا من جحر الأحزاب أكثر من مرتين، لذلك أشاحوا عنها هي وزعمائها بوجوههم فتجمع بعضها في “جبهة إنقاذ” تنادي بالإطاحة بالرئيس سعيد، ظنا من هؤلاء أنهم سيلقون ذات الأذان الصاغية بُعيد 2011 وفترة المراهقة السياسية التي عاشتها البلاد عقب الإطاحة بنظام الحزب الواحد.

لم يلتفت التونسيون إلى من هم على يمين الرئيس أو على يساره، ولا حتى تحمسوا كثيرا لمن هم خلفه من المتسلقين الجدد، وساندوا مشروع التغيير والإصلاح ببعض التحفظ والكثير من الاستعجال.

الأمر لا يخلو من الشعور بالإحباط، لكن الأمل لا يزال معقودا على رجل لا يؤمن كثيرا بالأحزاب، لكنه ليس زعيما على غرار الحبيب بورقيبة.. فلقد ولّى زمن الزعامات.

الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر وأعرق المنظمات النقابية في البلاد، لا يزال يحظى بثقة الكثير من التونسيين، لذلك بادرت قياداته للبحث عن موقع قدم في الأزمة الحالية مظهرة شيئا من الوسطية والاعتدال والواقعية، لكن الأجواء بينها وبين الرئيس سعيد، ليست صافية تماما، بالشكل الذي تتزعم فيه المبادرة وتظهر بمظهر المنقذ.. كان ذلك في وقت مضى.

◄ ضعف الإقبال غير المسبوق، والذي وُصف بـ"الكارثي" على صناديق الاقتراع في الانتخابات التي راهن عليها الرئيس قيس سعيد، ودعت إليها قوى خارجية، هو نفسه، لم يكن "حدثا" يستحق اهتمام التونسيين

وفي هذا الإطار، قال الأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي “أتوجه إلى رئاسة الجمهورية لإجراء حوار جدي ومسؤول لأنه من غيره سيدفعون بنا إلى التطاحن والعنف المرفوض في تونس ومن حقنا أن نعبّر عن مواقفنا”، وشدد على أن “الحل في ظل هذه الأوضاع هو الجلوس إلى طاولة واحدة”، لكن الرئيس سعيد قبل بـ”الحوار الجدي وليس المخاتلة”، مذكرا، وبصفة ضمنية، بموقف الاتحاد الذي اعتذر فيه عن المشاركة في صياغة الدستور الجديد بدعوى أنه يقصي قوى مدنية، في إشارة إلى أحزاب سياسية تم استبعادها.

خلاصة القول أن الثقة ضئيلة أو شبه معدومة بين التونسيين وقيس سعيد من جهة، والأحزاب من جهة ثانية، أما المنظمة النقابية فتحاول الإبقاء على شعرة معاوية، ولكن بشكل ضبابي وغير كاف.

وبالمقابل، فإن ضعف نسبة المشاركة في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، وانخفاضها إلى أدنى الدرجات، لا يعني أن تونس في وضع كارثي من حيث مؤشر الحياة السياسية والبرلمانية بل بالعكس، فلربما هو يبشر بجمهورية ثالثة تتغير فيها المعطيات والمكونات الدستورية، مما يسمح بتناول الملفات الاقتصادية الأكثر اهتماما من الرأي العام، بعيدا عن سفاسف الأمور والتراشق بالاتهامات المضللة تحت قبة برلمان بعيد عن هموم المواطن.

الوضع لن يكون مأساويا أكثر مما آلت إليه الأمور الاقتصادية والظروف المعيشية للمواطن في ظل ظروف وأزمات داخلية وإقليمية ودولية معقدة ومتداخلة، فما فائدة برلمان يكحّل عينيه في العتمة، ويمارس أعضاؤه السياحة الحزبية بحسب المصالح والأهواء.

نعم، خف بريق الانتخابات وكرنفالاتها الاستعراضية التي تعكس تدفق المال السياسي من جهات مشبوهة كما حدث في الماضي القريب، لكن آن الأوان أن تدق ساعة العمل الجدي والإمساك بالقضايا المعيشية الساخنة بدل الصراخ والترهات.

9