انتخابات تعني التونسيين ولا يهتم لها التونسيون

إنها عقدة ذنب تلاحق الذين آمنوا بصناديق الاقتراع دون أن يدركوا أن الديمقراطية هي مسيرة تعلّم مستمرة غايتها التعلم من الأخطاء والاستمرار في الإيمان بأن في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
الخميس 2023/12/21
عقدة ذنب تلاحق التونسيين

كأنّ الانتخابات المحلية في تونس “قيصر تتآمر عليه كل روما في صمت يتدثر باللامبالاة ويختفي خلفها”.. فها هي الحملة تنطلق منذ الثاني من ديسمبر الحالي وكأنها لم تنطلق، وها هم التونسيون لا يستبشرون إلا بالأمطار والغيث النافع، أما غير ذلك فيذهب جفاء، ولا يمكث في هذه الأرض التي أتعبها الجفاف والفاسدون سوى ما يتعلق بجيوب الناس وقدراتهم الشرائية.

وعلى الرغم من أن إجراء الانتخابات المحلية على مسافة أيام قليلة، فإن التونسيين يتكلمون في كل شيء، وعلى امتداد المقاهي التي تؤشر لأعداد البطالة في طول البلاد وعرضها، ما عدا هذه الانتخابات التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن إجرائها منذ اندلاع الثورة وسقوط نظام بن علي الذي كان يسيطر حزبه التجمع الدستوري الديمقراطي على أغلب مقاعد المجالس المحلية.

سوف يتم انتخاب 279 مجلسا محليا في جميع أنحاء الجمهورية التونسية يوم 24 ديسمبر 2023 بإشراف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.. ومع ذلك، يمضي التونسيون إلى مشاغلهم وكأن الأمر لا يعنيهم بل ينظرون إلى ما تداولته وسائل الإعلام الأجنبية حولها بشيء من الاستغراب.

ترى، ما الذي جعل هذا الشعب النزق المتوثب القلوق يشيح بوجهه عمّا يُعتبر ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية التي طالما حلم بها وتفاخر أمام الأمم ثم ما لبث أن أعرض عنها بنفس الحماس الذي طالب بها؟

◙ إلغاء التمويل العمومي لفائدة المترشحين أثّر سلباً على حملاتهم الانتخابية، التي أصبحت ممولة فقط من جيوبهم الخاصة أو من الأشخاص العاديين

الأمر يذكّر بتفاعل التونسيين منذ أشهر، بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم بشكل عرضي تطل جميعها على البحر، وتحد غالبيتها الجارة الغربية ثم سرعان ما خمدت تلك النكات والتعليقات حين عاد التونسيون إلى واقعهم كما يعود مهاجر إلى أرض الوطن.

ما الذي يجعل المراقبين الدوليين يصفون هذه البرودة وهذا الجفاء الذي أبداه التونسيون حيال الانتخابات المحلية بالذين يقودونهم إلى الجنة بالسلاسل؟ وأيّ جنة تنتظر هؤلاء المكتوين بسعير الأسعار والفساد، بالإضافة إلى تأثيرات الأزمات العالمية وقسوة الظروف المناخية؟

الأمر لا يتعلق بمواقف صادرة عن قوى معارضة للرئيس التونسي قيس سعيد، ولا بنقص في الوعي الوطني الذي يتميز به التونسيون قبل غيرهم على الصعيد الإقليمي والقاري، وإنما بشيء يمكن تسميته بـ”الإحباط الواعي”.. نعم، يمكن تسميته كذلك على الرغم من التناقضات التي يحملها هذا المصطلح في دلالاته.

عام 2022 أصبح لتونس دستور جديد غَيّرَ من تركيبة المشهد المحلي، فقد استحدث الرئيس قيس سعيد المجلس الوطني للجهات والأقاليم، وحافظ على المجالس الجهوية وأحدث المجالس المحلية بطريقة انتخاب خاصة.. هذا على مستوى النصوص والتشريعات، أما على مستوى الواقع فـ”دار لقمان على حالها” كما يقال، إذ لم يتغير الشيء الكثير في ما يخص معيشة المواطن ومستلزماته اليومية.

هذا على الرغم من أن مؤيدي الرئيس قيس سعيد يؤكدون على أنه، ومهما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية، فإنها تسير وفق شروط قانونية صارمة لمنع المتاجرة بأصوات الناخبين وشراء الذمم، مؤمنين أنها ستكرس الديمقراطية المحلية، وتفتح الباب أمام الكفاءات للتطوع لخدمة البلاد وتحسين أوضاع جهاتهم.

المسألة إذن، تتعلق بأمر يخص سيكولوجية المواطن التونسي وقناعاته التي بدأت بالتزحزح طيلة عقد أو يزيد من عمر ثورة الياسمين الذي لم يجن منه أبناء البلد غير أشواكه، وذلك بسبب ما لحق بهم من ظلم وتعسف وفساد قادته حركة النهضة التي جثمت على صدور التونسيين، ولا تزال آثارها واضحة في هذا “الندم” الذي لم يتخلّص منه المواطن البسيط.

◙ على الرغم من أن إجراء الانتخابات المحلية على مسافة أيام قليلة، فإن التونسيين يتكلمون في كل شيء، وعلى امتداد المقاهي التي تؤشر لأعداد البطالة في طول البلاد وعرضها، ما عدا هذه الانتخابات

أجل، إنها عقدة ذنب تلاحق الذين آمنوا بصناديق الاقتراع وما تفضي إليه لأول مرة، ودون أن يدركوا أن الديمقراطية هي مسيرة تعلّم دائمة ومستمرة غايتها التعلم من الأخطاء والاستمرار والديمومة في الإيمان بأن في النهاية لا يصح إلا الصحيح.

لماذا أنتم متسرعون وقانطون ويائسون أيها التونسيون إلى هذا الحد؟ عودوا إلى حماستكم بعيد 14 يناير 2011، وجددوا الثقة في ديمقراطيتكم الناشئة.

هذا ما يقوله لسان حال كل المعنيين بالشأن السياسي في تونس، والحريصين على استمرار تجربتها الديمقراطية على الرغم من جميع المصائب والمعوقات والنتائج المخيبة للآمال.

ومع ذلك، فأسباب كثيرة تقف خلف هذا المشهد الباهت البارد حيال الانتخابات المحلية في تونس، غير الجانب النفسي المتسم ببعض الإحباط وخيبة الأمل، وهي أن إلغاء التمويل العمومي لفائدة المترشحين أثّر سلباً على حملاتهم الانتخابية، التي أصبحت ممولة فقط من جيوبهم الخاصة أو من الأشخاص العاديين، هذا إضافة إلى ترشح 10 في المئة من مجموع المترشحين بمفردهم في دوائرهم الانتخابية، مما يعني فوزهم مسبقاً في الانتخابات دون عبء القيام بحملة.

هذا بالإضافة إلى عامل آخر يتمثل في إلغاء التعبير المباشر للمترشحين من التلفزيون الرسمي في عدم معرفة الناس بالانتخابات وببرامج المترشحين، وليس تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي كما يرى بعض المحللين.

وفي العموم فإن التجربة التونسية لا يمكن الاستعجال في الحكم عليها، وهي أيضا رهينة متغيرات محلية وإقليمية ودولية لا يمكن لتونس أن تبقى بمنأى عنها.

8