اليسار التونسي.. بديل سياسي تحت الاختبار

أمام تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها في تونس وثبوت فشل الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ ثورة 14 يناير، بدأ الحديث عن بديل سياسي يطفو على السطح بقوة خاصة بعد موجة الاحتجاجات التي شهدتها جملة من المحافظات التونسية. وكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إمكانية طرح اليسار التونسي وتحديدا الجبهة الشعبية كبديل سياسي في هذه المرحلة الصعبة، في خطوة قد تكون علامة فارقة في تاريخ اليسار التونسي الذي رغم مسيرته الحافلة، بقي دائما في خندق المعارضة.
الأربعاء 2016/02/10
هل آن أوان تحقيق الحلم

تونس – تطرح الجبهة الشعبية ــ التي تقدم نفسها كتيار يمثل اليسار التونسي - اليوم نفسها كخيار ثالث (مع النهضة والنداء) قادر على إنقاذ البلاد وإخراج شق كبير من الشعب التونسي من حالة الإحباط واليأس التي يعيش على وقعها لا سيما فئة الشباب المعطل عن العمل، وأهالي المحافظات الداخلية التي ما تزال بعيدة عن أجندات الساسة في تونس قبل وبعد الثورة.

وصرح حمه الهمامي الأمين العام للجبهة الشعبية سابقا، عقب الاحتجاجات التي شهدتها تونس في الفترة الأخيرة بأن اليسار (الجبهة الشعبية) هو البديل السياسي اليوم بعد فشل حكومة الترويكا وحكومة رباعي الائتلاف الحاكم اليوم في الاستجابة لأهداف الثورة الكبرى. وذكر أنه بوسع الجبهة اليوم تقليص الضغوطات المطروحة التي فشلت الأحزاب الحاكمة في حلها.

وكانت تونس قد شهدت موجة احتجاجات بداية شهر يناير الماضي، تعبيرا عن الامتعاض من أداء الحكومة الحالية التي لم تف بوعودها التنموية وغيرها التي أطلقتها في حملاتها الانتخابية. وتوقع الكثيرون أن تتسبب هذه التحركات في إسقاطها، وهو ما دفع بالكثير من الأحزاب إلى الظهور وطرح أنفسها كبدائل سياسية. ولأنها القوة السياسية الثالثة في البلاد بدأ الحديث يدور حول إمكانية أن تكون الجبهة الشعبية أو اليسار التونسي على رأس الحكم في الفترة القادمة لا سيما في ظل تواصل تأكيد التقارير أن الحكومة الحالية لا تملك خططا عملية قادرة على إسكات الشارع التونسي الذي يبدو أنه بدأ يستنفد صبره.

ولكن فيما يؤكد ممثلو وقيادات هذا التيار أحقيتهم وأهليتهم للحكم اليوم، يؤكد المراقبون أن هناك معطيات مختلفة تحول دون تحقيق هذا الطموح.

الجبهة الشعبية بديل رغم المشاكل

قال عمار عمروسية النائب في مجلس نواب الشعب التونسي عن الجبهة الشعبية في تصريح لـ”العرب”، “لا بد من التنبيه أولا إلى أن الجبهة الشعبية كهيكل جديدة ولكنها تمثل تتويجا للتجربة اليسارية الكفاحية في تونس، وتضم أحزابا لها جذور ضاربة ولها إسهاماتها الكبيرة في إزاحة الدكتاتورية، وفي زرع الوجه الحداثي والنير لتونس. وهذا اليسار بقي لسنوات طويلة في موقع المعارضة، ولكن المسار الثوري مفتوح ليكون اليوم في موقع الحكم. وهذا الدور الجديد لا تطرحه رغبات ذاتية للجبهة، ولكن الفشل الذريع الذي منيت به الترويكا أولا ثم فشل الائتلاف الرباعي ولا سيما حركة النهضة التي فشلت في مرحلتين، فضلا واقع الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها في تونس اليوم كلها تفيد بأنه قد حان الوقت ليكون اليسار وجبهته على رأس الحكم.

وأضاف “نحن على وعي بأن الوصول إلى الحكم يحتاج ثقة الشعب من جهة والتسلح ببرنامج يضم أجوبة للمعضلات الكبيرة المطروحة في البلاد اليوم، والوعي أن النجاح أو الفشل في الحكم مرتبط أساسا بكيفية ممارسة الحكم. وعليه فإن الجبهة تراهن على حكم البلاد بالاعتماد على الطاقات البشرية الكبيرة من خارج الجبهة، وعدم السقوط في ما سقطت فيه الأحزاب التي حكمت السنوات الماضية والتي ربطت إدارة الشأن العام بأبنائها وأحزابها”.

الأحزاب أصبحت مثل المغازات التجارية الكبرى تدعو الناس إليها في مواسم التخفيض ولكن البضاعة التي تعرضها هي ذاتها

ويشهد اليسار التونسي دائما موجة انتقاد مفادها أنه لم ينجح في طرح برنامج واضح، وقادر على الوصول إلى القاعدة الشعبية في تونس. وهو ما علق عليه عمروسية بقوله “الجبهة أعدت العدة لتكون في مستوى متطلبات المرحلة”. مشيرا إلى أنها تؤمن بأن الانطلاق يكون “من فكرة أن تونس في حاجة إلى استكمال بناء المشروع الوطني المفتوح على ثلاثة محاور كبيرة؛ أولها البعد الوطني والذي ندعو فيه إلى مراجعة كل الاتفاقيات المبرمة مع الدول الأجنبية عربيا ودوليا بما يضمن التعامل بندية، والمصالح الكبرى لتونس، إيمانا منا بأنه لا قيمة لثورة لا تضمن سيادة الوطن، إلى جانب إصرارنا على التدقيق في الديون الكبيرة للبلاد وهو ما يكفله القانون الدولي، ثانيا “نعمل هذه الفترة جاهدين على بلورة برنامج اقتصادي قوي منتج مندمج ومتوازن يولي أهمية كبرى للفلاحة العصرية وكذلك الصناعة، وثالثا على المستوى الاجتماعي ومن منطلق يقيننا أن لا قيمة حقيقية للحرية السياسية ــ على أهميتها ــ دون الموازنة مع بعدها الاجتماعي. ولذلك نحن بصدد وضع مشاريع قوانين تضمن التمييز الإيجابي للجهات المهمشة وحسن التحكم والتوزيع والتصرف لأن الفساد يشكل اليوم أكبر عقبة أمام نهوض الاقتصاد الوطني”.

مشروع وطني

تملك الجبهة الشعبية بعض أوراق القوة التي لا يمكن التغاضي عنها سواء على مستوى ثقل النقابات أو منظمات المجتمع المدني المنضوية تحت لوائها، فضلا تمثيليتها من خلال 15 نائبا داخل مجلس نواب الشعب، إلا أنها تبدو حسب المتابعين في وضع يفيد بأنها لا تحسن استخدام أوراقها، ويعيد البعض ذلك إلى الخليط الحزبي غير المتجانس في بعض الأحيان داخل الجبهة، وتأثيراته الكبرى على مستوى التنظيم وحتى على مستوى القرار.

وفي هذا الإطار يقول زهير حمدي الأمين العام لحزب التيار الشعبي التونسي والقيادي في الجبهة الشعبية لـ”العرب”، “إن الجبهة الشعبية تشهد جملة من المشاكل التنظيمية أساسا والتي تفرضها الاختلافات بين الأحزاب المنصهرة داخلها. ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى إحداث فرقة داخل هذا المشروع الكبير خاصة في ظل المساعي الكبيرة التي يبذلها هذا التيار من أجل تطوير تنسيقياته وهياكله بما يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة والتي ستحدد بعمق ووضوح في الندوة الوطنية الثالثة للجبهة المزمع عقدها قريبا”، مشددا على أن الواقع الموضوعي اليوم يقول إن وضع البلاد ومشاكلها يرشح الجبهة كبديل سياسي بعد فشل كل الخيارات والأطياف التي حكمت تونس في السنوات الماضية. وإن كان الأمر برأيه يتطلب أن تسارع الأحزاب اليسارية في توفير الشروط اللازمة لتكون في مستوى هذه المسؤولية وخاصة في ما يتعلق بتجاوز المشاكل التنظيمية.

سلوى الشرفي: طرح اليسار على السلطة في تونس مرتبط بمخططات الحلفاء التقليديين لتونس

ويبدو أن قيادات اليسار المنخرطين داخل الجبهة بشكل خاص يستعدون جديا لاستلام السلطة في تونس على المدى القريب، ويروجون لذلك. لكن تبقى الأسئلة القائمة هل يمكن فعلا لهذه التصورات اليسارية أن ترى النور في تونس؟ وهل بلغ هذا التيار النضج الكافي الذي يجعله يتعظ مما وقعت فيه الأحزاب السابقة؟ وهل هناك ما يدعم نجاح هذا المشروع على المستوى الداخلي والخارجي أيضا؟

المحللون السياسيون التونسيون لا يبدو أنهم على نفس درجة التفاؤل التي عليها القيادات اليسارية، بل هناك ما يشبه القناعة بأن هذا التيار السياسي لن يكون الرقم الأول في المشهد السياسي التونسي لاعتبارات وتصورات مختلفة.

رهان صعب

سلوى الشرفي الخبيرة في العلوم السياسية تقول في تصريح لـ “العرب”، “في البداية لا بد أن نحدد مفهوم اليسار لرفع اللبس لأن هناك في تونس الأشخاص المستقلين المناضلين في سبيل حقوق الإنسان وهؤلاء لا يقدمون أنفسهم كيسار ماركسي، وهناك الأحزاب وخاصة المنضوية تحت جلباب الجبهة الشعبية والتي تطرح على الساحة السياسية كتيار ماركسي. وهؤلاء يمكن أن يكونوا موضوعيا بديلا سياسيا في تونس، ولكن المسألة لا تتعلق بإرادة الأحزاب أو بوزنها، بل تتعلق أساسا ببعض المعطيات الخارجية شديدة التأثير وأخرى داخلية شديدة الحساسية. فأما على المستوى الخارجي فإن طرح اليسار أو غيره على السلطة في تونس مرتبط بمخططات الحلفاء التقليديين لتونس ونعني أساسا الحلف الأميركي السعودي القطري المعروف بمعاداته الدائمة للفكر الماركسي منذ فترة الحرب الباردة وإلى اليوم. وهذا الحلف لن يقبل أن تكون تونس تحت سلطة يسارية، لأن هذه الأطراف تعمل بموجب استراتيجيات طويلة المدى، وهي من تخلق الأحداث أيضا، ومن المؤكد أنها تملك من الخطط ما يجعلها تمنع وصول اليسار الماركسي إلى الحكم بأي طريقة. ولعل تحالف النداء والنهضة أبرز دليل على ذلك وقد سبق وأن صرح الباجي قائد السبسي بأن الأمر قد فرض من قوى خارجية.

وعلى المستوى الداخلي قد يفكر الشعب التونسي في التوجه إلى اليسار الماركسي بعد أن جرب السنوات الماضية خيارات أثبتت فشلها، ولكن هذا الأمر يبقى فرضية غير مؤكدة لأنه ثقافيا اليسار الماركسي ليس متجذرا في التربة الشعبية التونسية، فمثلا عندما انتخب التونسي حركة النهضة كانت حجته دينية وعندما اختار النداء كانت حجته بورقيبة، في حين عندما يتم طرح ماركس قد يثير الأمر الكثير من الحساسيات والدليل على ذلك إقدام حمه الهمامي الأمين العام للجبهة الشعبية على إسقاط كلمة الشيوعي عن تسمية حزبه تلافيا للحساسيات. كما أن انشقاق حزب نداء تونس لا يعني أن أصواته ستتجه نحو الماركسيين فقد يذهب الكثير منها لانتخاب الشقوق التي ولدت من رحم النداء اليوم أو ستتخذ قرار عدم التصويت لأحد وهو احتمال وارد أكثر من غيره على سلبيته”.

قاعدة جماهيرية لا تفي بالغرض

وتؤكد الشرفي أن قواعد اليسار التونسي متشددة في مبادئها وهي حتما لن تتفق مع قياداتها في حال قررت تغيير بعض أسسها، كمسألة رفض المديونية وغيرها. وهذا يتطلب جهودا كبرى من قيادات اليسار التي ستكون أمام مهمة إقناع قواعدها بضرورة تحوير المسائل المتجذرة داخلهم، وهذا يحتاج إلى وقت طويل.

ومن جهته يرى قيس سعيد المحلل السياسي أن اليسار في تونس لم يقدر بعد على أن يطور خطابه، وأن يتخلص من الإرث الذي رافقه على مدى العشرات من السنين، ومازالت نفس الشعارات تقريبا ونفس الخطب هي التي تكرر ونفس ردود الفعل بوجه عام تعاد بين الحين والحين.

وأضاف سعيد لـ “العرب” أن القضايا المطروحة اليوم لا يمكن أن تعالج بمجموعة من الخطابات القديمة، وبمجموعة من الحلول التي صارت بالحد الأدنى غير متلائمة مع الأوضاع الحالية. فاليوم دخلت المجتمعات سواء في تونس أو حتى في بقية دول العالم مرحلة جديدة وأصبحت هناك إمكانيات عمل سياسي مختلفة عن الوسائل التقليدية التي تم تكريسها طيلة القرنين الماضيين بوجه خاص، حيث أكدت الأحداث التي جدت في تونس وبعض البلدان العربية الأخرى والتي تمت دون قيادة، أنه صار بالإمكان التنظم خارج الأطر التقليدية، وأن الشعوب أمست مهيأة للحراك دون الحاجة إلى هياكل حزبية تقليدية، على حد تعبيره.

وقد استدل على ذلك بالقطيعة الحاصلة بين ما يسمى النخبة السياسية وعموم الشعب، والاحتجاجات التي تمثل برأيه دليلا إضافيا على إمكانيات التنظم، بل وإمكانية بلورة برامج خارج هذه الهياكل التي أمست غير قادرة على استيعاب المرحلة. فالأحزاب عبر هياكلها القديمة أصبحت مثل المغازات التجارية الكبرى التي تدعو الناس إليها في مواسم التخفيض ولكن البضاعة التي تعرضها هي ذاتها التي لم تعد تجلب الحرفاء، حسب قوله.

وأضاف أن الأحزاب السياسية في تونس، بما فيها اليسار راكمت الأخطاء ولم تجرؤ على تغيير مواقفها، ولم تستوعب بعد أن الدستور الحقيقي هو ما يخطه الشباب على الجدران، لم تتفهم أن البديل مطروح من الشعب دون غيره، لم تستوعب أن التنظيم السياسي الحقيقي ينطلق من القاعدة نحو المركز وليس العكس، ولم تتفهم حقيقة التغييرات التي تعرفها شعوبها، ولهذا فإن أي بديل لم يستوعب هذه المعطيات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون بديلا حقيقيا، واليسار التونسي ليس استثناء ما دام لا يزال رهين سياسته وخطبه القديمة.

عمار عمروسية: نعمل هذه الفترة جاهدين على بلورة برنامج اقتصادي قوي منتج مندمج ومتوازن

ورغم إصرار قيادات وحتى قواعد اليسار التونسي على نظافة يدهم وعدم انخراطهم في أي تفاهمات سياسية تتناقض مع أفكارهم، وخاصة الموقف الواضح من التيار الإسلامي في تونس ممثلا في حركة النهضة، إلا أن التفاهمات التي يصفها البعض بأنها كانت سطحية مع حزب نداء تونس في مرحلة ما باتت اليوم من النقاط التي يذهب إليها بعض المراقبين في تقييم النهج السياسي خاصة للجبهة الشعبية، حيث يرى البعض أن ذلك يعكس وجها من وجوه التناقض داخل هذا الطيف السياسي الذي قد يقدم تنازلات وإن كانت دنيا مع طرف سياسي لا ينسجم ورؤاه السياسية.

ويرى فريد العليبي المحلل السياسي أن تونس، حكاما ومحكومين، تعيش على وقع أزمة عميقة، فلا الحكام أمكنهم ضمان استقرار حكمهم ولا المحكومون استطاعوا استبدالهم بحكم شعبي، لذلك هناك شبه إجماع اليوم على أن انتفاضة 17 ديسمبر لم تحقق هدفها الاستراتيجي المعلن في شعارها التاريخي “الشعب يريد إسقاط النظام”. فتونس اليوم يدير شؤونها قسم من الحكام القدامى متآلف مع حركة النهضة أي مع الفرع التونسي لحركة الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب الأخرى المستندة إلى قوة المال والإعلام.

ويشير العليبي إلى أنه في ظل هذا الوضع انتشرت الاحتجاجات ووصلت إلى حد الانتفاض مثلما جرى خلال الأيام الأخيرة خلال انتفاضة المعطلين عن العمل التي هددت بشكل جدي وجود الائتلاف الحاكم ويجري البحث عن بدائل ممكنة، وهناك حديث بين الفينة والأخرى، وإن كان بشكل خجول، عن اليسار باعتباره القوة التي يمكنها أن تحل معضلات التشغيل والتنمية والفساد وغيرها.

والمقصود باليسار هنا طيف واسع من الأحزاب والمنظمات والنقابات بما فيها الجبهة الشعبية غير أن هذا اليسار منخرط بدوره في التفاهمات التي أعقبت هروب بن علي إلى السعودية ولا يمثل بالتالي بديلا حقيقيا لنمط الحكم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهو من جنس الحكم السائد حاليا، بمعنى أن المعارضة اليسارية التي نجدها اليوم في البرلمان والمتحالفة سابقا مع حزب الباجى قائد السبسي في إطار جبهة الإنقاذ، لا تمتلك استراتيجية بديلة للحكم وليست لها حلول فعلية للمشكلة الاجتماعية حتى أن بعض أقطابها نادى خلال مناقشة مسألة المصالحة الاقتصادية بالعفو عن رجال أعمال بن علي لكي يساهموا في حل مشكلة البطالة.

7