الولع بالبنايات الصرحية في الدولة الوظيفية

لم أفرح بالافتتاح الرئاسي لأكبر مسجد في مصر وأكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط، الأحد 6 يناير 2019 في العاصمة الإدارية الجديدة، وما قرأتُ فرحا في عيني أي مصري، ولو من غير العارفين بالشاعر التركي ناظم حكمت. وكان محمد البخاري مترجم ديوان “أغنيات المنفى” قد صحب الضيف في زيارته إلى مصر عام 1962، وفي مسجد السلطان قلاوون بالقاهرة أمسك الشاعر بيد البخاري الذي يروي قائلا “ليخرجني متعجلا، وهو يقول لي: معذرة يا أخي إن تركيا مليئة بمئات من هذه المساجد، والأبنية هي الأبنية في كل العالم، إن ما أريده هو أن أستمع إلى نبضات الناس، إلى كلماتهم، أن أتبيّن وميض بسماتهم، وهنا لمح طفلين يتهامسان إلى جنب زوجته الشقراء الروسية، فتورد وجهه وانحنى يحدثهما متوسلا أن أترجم له كل ما يقولان”.
الإنسان ينصت إلى الهمس ولو لم يعرف لغته، ويتقصّى روح كلمات لا يفهمها. والمولع بالبنايات، الراغب في أن يلحق باسمه أفعل التفضيل، يسعى إلى تشييد الصروح، تعويضا عن الإخفاق في التواصل الحقيقي مع هذا الهمس، ولا تعنيه أشواق الناس. ولم يترك حكام لمصر آثارا من المساجد والأسبلة والتكايا والقصور أكثر من المماليك، وكانوا يتنافسون على أمرين: إقامة الأبنية العملاقة والاقتتال الأهلي؛ للغلبة بالسيف والجدارة بالموكب السلطاني والإقامة في القلعة.
ولو لم يكونوا مسلمين لتباروا في تشييد المعابد والكنائس الدالة على غربتهم واغترارهم بالقوة، فينفقون ميزانيات مفتوحة في وجوه ليست أولى باهتمام المؤمنين بالحديث النبوي “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”.
يحلو للبسطاء المصريين نشر صور لمئذنة وبرج كنيسة؛ وكتابة كلام أكثر تبسيطا لما يرونه عناقا لرمزيْ دينين وتسامحا بين معتنقيهما، ولكن الأمر في جوهره تحرش معماري، ومطاردة من المئذنة للبرج لا العكس، إذ لا يسمح العرف الاجتماعي الإسلامي المصري ببناء كنيسة بالقرب من مسجد، ويتنادى المسلمون إلى الإسهام في بناء مسجد بالقرب من الكنائس، عنادا واحتكارا لله أن يعبده غيرهم. والفتنة الطائفية غير نائمة في مصر، فهي تطلّ لكي تحرق أو تفجر ثم تأخذ هدنة إلى مناسبة مسيحية قادمة، حتى أننا نبتهل إلى الله بالدعاء أن تمر أعياد الميلاد على خير.
وكان افتتاح المسجد والكنيسة بحضور رئيس الدولة ورمزيْ الدينين مناسبة للانضواء تحت لواء دولة تحمي الجميع، ولكن الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر استعار خطابا قديما فقال إن قضية الكنائس في الإسلام “موضوع محسوم… دولة الإسلام ضامنة شرعا لكنائس المسيحيين ولمعابد اليهود. هذا حكم شرعي”. وليته أكد حماية القانون في الدولة المدنية لدور العبادة، فلا يكلف المسلمون “بحماية الكنائس” إلا في كيان تاريخي كان يسمى دار الإسلام، ولم يكن في جيشها مكان لمسيحيين فرضت عليهم الجزية لقاء الحماية.
الفرح المفترض بافتتاح الكاتدرائية، عشية احتفال مسيحيي مصر بعيد الميلاد، صرفتني عنه ذكرى الدكتور عبدالوهاب المسيري، وكان ماهرا في صوْغ مصطلحات ونحتها على غير مثال، بعضها لم يكتب له الشيوع مثل “الحوْسلة” أي تحويل الإنسان إلى وسيلة، ومنها ما انتشر واستقر في مدارات أبعد من جذوره المسيرية، مثل “العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية” و“الجماعات الوظيفية”، وهي ذات طابع أداتي، تعاقدي، تبيع للآخر شيئا ما، مثل “المقدرة العسكرية… أداة فتك، أو استثمار”، وكذلك “الدولة الوظيفية” التي تُصطنع بعدة طرق منها تحويل دولة غير استيطانية “إلى دولة وظيفية… عن طريق رشوة لشعب هذه الدولة، بحيث يرتفع مستوى معيشته ويتزايد اعتماده على قوة خارجية… يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفيا عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار”. (موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية”، الجزء الأول ص 373 و374). وفي الجزء السابع من الموسوعة يعتبر المسيري دولة المماليك في مصر نموذجا للدولة الوظيفية.
وفي السبعينات فرّطت مصر في استقلالها، وترتب على هذه التبعية دور وظيفي. وتُمنحُ مصر منذ معاهدة السلام مع العدو الصهويني عام 1979 معونة سنوية. وعلى الرغم من المعونة، وربما بسببها، تدهورت الأوضاع التعليمية والصحية والزراعية وبدأت تصفية القطاع الصناعي؛ لفتح الأسواق أمام الاستيراد، ولا تزال الدولة التي لم تعان أزمات غذائية حتى في ظل الحروب منذ 1948 أكبر مستورد للقمح في العالم. وتضمّنَ مسلسل التبعية فاصلا كوميديا يقضي بأن يوفد بلد اكتشف الزراعة في فجر التاريخ، واشتهر بأنه سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية، “ألف خريج مصري إلى إسرائيل.. و120 قيادة زراعية و900 مزارع… لتعليمهم خبرات التقدم الزراعي الإسرائيلي”. (عواطف عبدالرحمن “اليهود المصريون والحركة الصهيونية”). وبعد أربعين عاما على تحويل مصر إلى دولة وظيفية نحصد الجوع. لا يصح استخدام كلمة أقل قسوة من الجوع.
لم يُستشرْ الشعب في أمر “العاصمة الإدارية الجديدة”، وقد تؤدي إلى جدل دستوري؛ فالمادة رقم 22 من الدستور تقول “مدينة القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية”، وتغيير العاصمة يلزمه استفتاء شعبي. والاسم الغريب لهذا الكيان المملوكي يوحي بوجود عاصمة إدارية قديمة، ولم تكن لمصر منذ دخول الإسلام إلا عاصمة حملت اسم القاهرة قبل ألف عام. ولا توجد في العالم عاصمة اسمها “العاصمة الإدارية الجديدة”، ودائما تحمل العواصم الجديدة اسما دالا محددا لا وصفا في جملة غير مفيدة. وليس أغرب من اسم “العاصمة الإدارية الجديدة” إلا اسم مسجد “الفتاح العليم”، وهو اسم يقول كل شيء ولا يقول شيئا، فكل بيوت الله في الأرض هي مساجد الفتاح العليم، ولا يجاري هذا الاسم في عموميته إلا أن يسمى “مسجد الله”، وكأن في أي مكان مسجدا للشيطان.
مصر حاليا في شوق إلى الحرية والعدل السياسي والاجتماعي والصحي، ووضع استراتيجية وطنية تنهض بالتعليم والزراعة والصناعة. لدينا وفرة في التدين ونقص حادّ في الإيمان، وارتفاع صخب النفاق الديني لا ينفي فقرا إيمانيا لا تخفيه مآذن المساجد وأبراج الكنائس.