الوصفة المطلوبة في الجزائر

تفرقت رؤى الطبقة السياسية الجزائرية في الآونة الأخيرة بين محاذير المخاطر الخارجية ومحاذير انتفاضة الشارع المحلي. لذلك، بدا مطلب التفرغ السريع للجبهة الداخلية عبارة عن بالون يصعب الإمساك به رغم خفته ورقّة جلده، الأمر الذي يعكس تباين دواعي ومصدر ذلك المطلب، بين من يعتبر أن التوترات القائمة في المنطقة والأزمات المتصاعدة باتت مصدر خطر يهدد الدولة برمتها، وبين من يعتبر أن جدار المناعة ضد ذلك الخطر يبدأ من تسوية وترتيب الأوضاع الداخلية، بما في ذلك صوت الشارع.
بين موقف حركة البناء الوطني، وجبهة القوى الاشتراكية، وحركة مجتمع السلم، يتضح أن الرسالة لا تصل بشكل ومحتوى موحد للمتلقين. فما يراه عبدالقادر بن قرينة هو أن السلطة والطبقة السياسية في مركب واحد، وأن الجزائريين مطالبون بالوقوف جبهة واحدة خلف مؤسسات الدولة لدرء المخاطر الخارجية. أما يوسف أوشيش فيرى أن جدار المناعة يتطلب بعض المراجعات الجوهرية، يأتي على رأسها لجم المقاربة الأمنية في تسيير الشأن العام، والسماح للمؤسسات الاجتماعية الأخرى بأداء دورها. في حين يرى عبدالعالي حساني شريف أن حوارا وطنيا شاملا يحضره الجميع هو الكفيل بتمتين وتماسك الجبهة الداخلية.
الفاعلون السياسيون لم يحددوا بعد مصدر الخطر وما إذا كان يتمثل في التوترات والتطورات الإقليمية والقوى المعادية أم الجبهة الداخلية الصامتة التي لا يدري أحد ماذا تفكر وماذا تريد
من هذه الطروحات يبدو أن الفاعلين السياسيين لم يحددوا بعد مصدر الخطر الداهم، إذا كان يتمثل في التوترات والتطورات الإقليمية، والقوى المعادية المترصدة، أم الجبهة الداخلية الصامتة التي لا يدري أحد في ماذا تفكر وكيف تتفاعل وماذا تريد، بسبب سد جميع قنوات التواصل أو الاستماع للشارع خلال السنوات الماضية. لذلك يعم الاختلاف حول آليات المواجهة والتصدي، رغم الإجماع على أن الجبهة الداخلية، وإذ يتضح أنها موجهة ضد من، إلا أن طروحات الطبقة السياسية لم تبين بعد جبهة بين من ومن وكيف؟
في سنوات ماضية، جزم المسؤول رفيع المستوى والسياسي المخضرم مولود حمروش، في تعليق له على الانسداد الذي وصل إليه الحراك الشعبي، بأن التغيير في الجزائر لن يكون ولن ينجح إلا بتوافق بين السلطة والمعارضة، وأن نجاح تجربة التحول الديمقراطي والتعددي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، في بداية الأمر، كان بوجود مطلب شعبي تفاعلت السلطة حينها معه بشكل إيجابي.
وهو ما لم يحدث في انتفاضة عام 2019، بسبب تباين الرؤى في قراءة الأشياء، وامتد إلى غاية اللحظة التي تعيشها المنطقة، حيث يتحدث الكل عن الجبهة الداخلية والحوار السياسي، لكن مصدر الخطر لا زال غير محدد، إذا كان من خارج الحدود أم من داخلها.
بمجرد سقوط النظام السوري، في 13 يوما، بعد 13 عاما من الصمود، تحولت أنظار البعض إلى الجزائر، وكأن الأمر يتعلق بأحجار “دومينو”، وذلك لاعتبارات سابقة تصنف النظامين في خانة واحدة، لاسيما وأن عبارة وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم آل ثاني، لنظيره الجزائري الراحل مراد مدلسي، “سننتهي من سوريا ثم نتفرغ لكم” لا زالت راسخة في الأذهان.
وذلك مؤشر كاف ومشروع لبعث الهواجس لدى دوائر القرار السياسي في البلاد، لكن أوجه التشابه بين بعض النخب العربية الحاكمة، هي التي ترفع المخاوف على الأوطان قبل الحكام. فقد رحل النظام السوري وبقيت سوريا بمخاوفها وهواجسها الراهنة والمستقبلية، لكن العلة تبقى قائمة في الرؤية الصائبة للتحولات. فمتى تم التشخيص السليم للأوضاع يتم حل الأزمات وتلافي الاضطرابات.
سيتحدث التاريخ عن حقبة آل الأسد في سوريا، كما يتحدث عن حكام آخرين، بمن فيهم الرئيس عبدالمجيد تبون، في الجزائر، والعبرة في إنقاذ الأوطان قبل إنقاذ الذوات، بداية من العودة إلى الوعاء الشعبي قبل الحلفاء والأصدقاء، إلى الرد الذكي لطمأنة الناس التي تريد الخير للجزائر، ولجم الأشرار الذين يريدونها متهاوية، ممزقة، أو رجلا مريضا.
الاستقواء بالأجانب والولاء للخارج دمّر أوطانا بكاملها، فلا الأنظمة الدكتاتورية صمدت ولا الديمقراطية أرست دعائمها
العالم ليس جمعية خيرية، وصراع المصالح والنفوذ كفيل بتدمير الحياة على هذه الأرض. لذلك فالمسؤولية كبيرة والتحديات أكبر، ولا يكون أهلا لها إلا من أدرك اللعبة، سواء كان في السلطة أو في الطبقة السياسية أو المجتمع المدني، ومفتاح ذلك تشخيص الداء قبل تحديد الدواء، وإلا كان العلاج فوضويا ونتائجه غير مجدية، تزيد الأضرار إيلاما.
أمام الجزائر بكل مكوناتها ومؤسساتها فرصة جديدة، لتطمئن أصدقاءها على حاضرها ومستقبلها، وتخرس الألسن التي لا تنام ولا تستيقظ إلا على نهشها. لكن ذلك لن يكون إلا بالرؤية الثاقبة والصائبة للتحولات، ثم استقطاب جميع أبنائها مهما كانت مشاربهم وخلفياتهم السياسية والأيديولوجية. وتلك هي وصفة الجبهة الداخلية المأمولة، فلا يمكن أن تكون وسيلة لصناعة المجد السياسي بركوب موجة السلطة، وترك قارب الشارع يغرق.
الاستقواء بالأجانب والولاء للخارج دمّر أوطانا بكاملها، فلا الأنظمة الدكتاتورية صمدت ولا الديمقراطية أرست دعائمها. ويبقى النموذج الجزائري فريدا من نوعه، فقد انتفض الجزائريون في نهاية ثمانينات القرن الماضي، في وقت لم تكن المنطقة قد سمعت شيئا عن التعددية والديمقراطية، ونأت انتفاضة 2019 بنفسها عن موجة الربيع العربي. ومهما كانت النتائج فإنها أحداث مفصلية، لكنها تمت بعيدة عن أذرع الأخيار والأشرار معا.
هذه التجربة، وبهذا الطبع العنيد الذي لا يروقه أن يكون رأسا من قطيع، تعود مقولة مولود حمروش إلى الواجهة، فالتغيير المأمول لن يكون إلا بتوافق الجميع سلطة ومعارضة. فلا الشارع مستعد لسقوط النظام، ولا النظام مستعد لاستنساخ انتفاضة شعبية جديدة، لكن فهم اللعبة وإدراك التحولات تحتم على الجميع الجلوس لإصدار وصفة الانتقال السلس، لتكتمل التجربة بكل أركانها.